التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
٧
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
-المنافقون

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، ولهذا قال تعالى: { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }. عن سفيان { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } حوّل سفيان وجهه على يمينه، ونظر بعينه شزراً، ثم قال: هو هذا، وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في (عبد الله بن أبي سلول) كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى. قال قتادة والسدي: "أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبي، وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعدو الله: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يلوي رأسه، أي لست فاعلاً" .
وقال أبو إسحاق في قصة بني المصطلق: "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء (جهجاه بن سعيد الغفاري) وكان أجيراً لعمر بن الخطاب و(سنان بن يزيد)، فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند (عبد الله بن أُبي) فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه، وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها، فسمعها (زيد بن أرقم) رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! مر عباد من بشر فليضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه، لا، ولكن ناد يا عمر: الرحيل، فلما بلغ عبد الله بن أُبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال، ما قال عليه (زيد بن أرقم) وكان عند قومه بمكان، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل، وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه (أسيد بن الحضير) رضي الله عنه، فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال: والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل، ثم قال: ارفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاء الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتد الضحى، ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا" ، ونزلت سورة المنافقين، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي، عن جابر بن عبد الله يقول: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجُلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة، وقال (عبد الله بن أُبي بن سلول) وقد فعلوها: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" . وروى الإمام أحمد، عن زيد بن أرقم قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أُبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال، فحلف عبد الله بن أُبي أنه لم يكن شيء من ذلك، قال: فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا؟ قال، فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً، قال: فأرسل إليَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أنزل عذرك وصدقك، قال: فنزلت هذه الآية: { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } حتى بلغ { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }" .
طريق أُخْرَى: قال الإمام أحمدرحمه الله ، عن زيد بن أرقم قال: "خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أُبي بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته، فأرسل إلى عبد الله بن أُبي بن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك! قال: حتى أنزل الله: { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ }، قال: فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ، ثم قال: إن الله قد صدقك" . وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة "أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" ، وذكر عكرمة "أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف (عبد الله بن عبد الله) على باب المدينة واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه (عبد الله بن أُبي) قال له ابنه: وراءك فقال: مالك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من هٰهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إليه عبد الله بن أُبي ابنه، فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن" ، وقال الحميدي في "مسنده": "قال عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق لئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي" .