التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد، أن منهم من هو عدوّ الزوج والوالد، بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح، كقوله تعالى: { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9]، ولهذا قال تعالى هٰهنا: { فَٱحْذَرُوهُمْ } قال ابن زيد: يعني على دينكم، وقال مجاهد: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم، أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه، وقال ابن أبي حاتم: عن ابن عباس، وسأله رجُل عن هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } قال: "فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }" . وقوله تعالى: { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }. يقول تعالى: إنما الأموال والأولاد { فِتْنَةٌ } أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ } أي يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال تعالى: { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14]. روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله ورسوله { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد ثمرة القلوب، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة" .
وقوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" ، وهذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102]، عن سعيد بن جبير في قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102]، قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفاً على المسلمين { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } فنسخت الآية الأولى، وقوله تعالى: { وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } أي كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، وقوله تعالى: { وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } أي وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، يكن خيراً لكم في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تقدم تفسيره في سورة الحشر، وقوله تعالى: { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونزّل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول: "من يقرض غير ظلوم ولا عديم" ، ولهذا قال تعالى: { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ }، كما قال تعالى: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245] { وَيَغْفِرْ لَكُمْ }، أي ويكفر عنكم السيئات، { وَٱللَّهُ شَكُورٌ } أي يجزي على القليل والكثير، { حَلِيمٌ } أي يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات، { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة.