التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
-الطلاق

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى مبيناً لعدة الآيسة، وهي التي قد انقطع عنها المحيض لكبرها، أنها { ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } عوضاً عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض، أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر، ولهذا قال تعالى: { وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ }. وقوله تعالى: { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } فيه قولان: أحدهما: وهو قول طائفة من السلف أي إن رأين دماً وشككتم في كونه حيضاً أو استحاضه وارتبتم فيه، والقول الثاني: إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر، وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في المعنى لما روي عن أبي بن كعب قال: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناساً من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في البقرة: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الحيض، وذوات الحمل، قال: فأنزلت التي في النساء القصرى: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ }. وقوله تعالى: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يقول تعالى ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة، في قول جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنّة النبوية، وقد روي عن (علي) و(ابن عباس) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة روى البخاري، عن أبي سلمة قال: "جاء رجُل إلى ابن عباس - وأبو هريرة جالس - فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس: آخر الأجلين، قلت: أنا { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أُم سلمة يسألها، فقالت: قُتِل زوج (سبيعة الأسلمية) وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطِبتْ فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل فيمن خطبها" .
وروى البخاري ومسلم: "أن سبيعة كانت تحت (سعد بن خولة) وكان ممن شهدا بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح! إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي" . هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري مختصراً، ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية، وقال أبو سليمان بن حرب وأبو النعمان، حدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد هو ابن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمٰن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال: فضمز لي بعض أصحابه، قال محمد: ففطنت له، فقلت له: إني لجريء أن أكذب على عبد الله، وهو في ناحية الكوفة قال: فاستحيا وقال: لكن عمه لم يقل ذلك، فلقيت أبا عطية مالك بن عامر، فسألته، فذهب يحدثني بحديث سبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شيئاً؟ فقال: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ فنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }. وروى ابن جرير عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قال: من شاء لاعنته، ما نزلت { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، قال: وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفى عنها { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [البقرة: 234] وقال: ابن أبي حاتم، عن مسروق قال: بلغ ابن مسعود أن علياً رضي الله عنه يقول آخر الأجلين، فقال: من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }، وقوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي يسهل له أمره وييسره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً، ثم قال تعالى: { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي يذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.