التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
٥
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
٦
إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
٧
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
٨
رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً
٩
-المزمل

مختصر تفسير ابن كثير

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل، وهو التغطي، وينهض إلى القيام لربه عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79]، فقال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً }، قال ابن عباس { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } يعني يا أيها النائم، وقال قتادة: المزمل في ثيابه، وقال إبراهيم النخعي: نزلت وهو متزمل بقطيفة ، وقوله تعالى: { نِّصْفَهُ } بدل من الليل { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة، أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك، وقوله تعالى: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أي اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها، وفي "صحيح البخاري" عن أنَس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مداً، ثم قرأ: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1، النمل: 30] يمد بسم الله ويمد الرحمٰن ويمد الرحيم، "وعن أُمّ سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }" ، وفي الحديث: "يقال لقارىء القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل، وتحسين الصوت بالقراءة، كما جاء في الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم" ، و "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" . وقال ابن مسعود: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة، وقوله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال الحسن وقتادة: أي العمل به، وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت ترض فخذي، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها "أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتي في مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً" . وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها" .
وقوله تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } قال عمر: الليل كله ناشئة، وقال مجاهد: نشأ إذا قام من الليل، وفي رواية عنه: بعد العشاء، والغرض أن { نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } هي ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، ولهذا قال تعالى: { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً }، قال أبو العالية ومجاهد: فراغاً طويلاً، وقال قتادة: فراغاً وبغية ومتقلباً، وقال السدي: { سَبْحَاً طَوِيلاً } تطوعاً كثيراً، وقال عبد الرحمٰن بن زيد { سَبْحَاً طَوِيلاً } قال: لحوائجك فأفرغ لدينك الليل، وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله تبارك وتعالى منَّ على عباده فخففها، ووضعها. روى الإمام أحمد، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام قال: قلت: "يا أمّ المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ هذه السورة: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ }؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم" ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال: يا أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما ديم عليه" "ونزل القرآن: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
وقال ابن جرير: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت:
{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [المزمل: 20] قال: فاستراح الناس. وقوله تعالى: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ } [الشرح: 7] أي إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته، وعبادته لتكون فارغ البال، { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي أخلص له العبادة، وقال الحسن: اجتهد وابتل إليه نفسك، وقال ابن جرير: يقال للعابد متبتل، ومنه الحديث المروي (نهى عن التبتل) يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج، وقوله تعالى: { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إلٰه إلا هو، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل فاتخذه وكيلاً، كما قال تعالى: { فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]، وكقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].