التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
-المدثر

مختصر تفسير ابن كثير

روى البخاري: عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً - قال - فدثروني وصبُّوا عليَّ ماء بارداً، قال: فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }" . وعن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي إذْ سمعتُ صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } - إلى - { فَٱهْجُرْ }" ، قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان، "ثم حمي الوحي وتتابع" . وهذا السياق يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: "فإذا الملك الذي كان بحراء" ، وهو جبريل حين أتاه بقوله: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا، كما قال الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: "ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبَل السماء فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم: زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } ثم حمي الوحي وتتابع" . وروى الطبراني، عن ابن عباس قال: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل ساحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه سلم، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } وقوله تعالى: { قُمْ فَأَنذِرْ } أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي عظّم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } سئل ابن عباس عن هذه الآية: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع

وفي رواية عنه: فطهر من الذنوب، وقال مجاهد: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: نفسك ليس ثيابه، وفي رواية عنه: أي عملك فأصلح، وقال قتادة: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي طهرها من المعاصي، وقال محمد بن سيرين: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه. وقال سعيد بن جبير { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقلبك ونيتك فطهر.
وقوله تعالى: { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } قال ابن عباس: والرجز وهو الأصنام فاهجر، وقال الضحّاك { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ }: أي اترك المعصية، وعلى كل تقدير، فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك كقوله تعالى:
{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [الأحزاب: 1]. وقوله تعالى: { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ }، قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها، وقال الحسن البصري: لا تمتن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير، وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: تمنن في كلام العرب تضعف، وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأخذ عليه عوضاً من الدنيا، فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزَّ وجلَّ، قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي: اصبر عطيتك لله عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ومجاهد: { ٱلنَّاقُورِ } الصور، قال مجاهد: وهو كهيئة القرن، وفي الحديث: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا" ، وقوله تعالى: { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي شديد، { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أي غير سهل عليهم، كما قال تعالى: { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8]، وقد روينا عن (زرارة بن أوفى) قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } شهق شهقة، ثم خرّ ميتاًرحمه الله تعالى.