التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
-الأنفال

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } أي تفروا وتتركوا أصحابكم، { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أن خاف منه، فيتبعه، ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك. وقال الضحاك: أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي فر من هٰهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونوه، فيجوز له ذلك، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة ثم بتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: مَنْ القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكّارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين قال: فأتيناه حتى قبَّلنا يده. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ }" . قال أهل العلم: معنى قوله "العكارون": أي العرافون، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيدة لما قُتل بأرض فارس لكثرة الجيش من المجوس فقال عمر: لو تحيز إليَّ لكنت له فئة، ويروى عنه أنا فئة كل مسلم. وقال الضحاك في قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ }: المتحيز الفار إلى النبي وأصحابه، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" . ولهذا قال تعالى: { فَقَدْ بَآءَ } أي رجع { بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }.
وقال الإمام أحمد عن بشير بن معبد قال:
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله؛ فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله لا أطيقهما: الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضبٍ من الله، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولهم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرك يده ثم قال: فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً؟ قلت: يا رسول الله أنا أبايعك، فبايعته عليهن كلهن" . وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراماً على الصحابة، لأن الجهاد كان فرض عين عليهم، وقيل: على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقيل: المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة. وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ، ولهذا قال الحسن في قوله: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال: ذلك يوم بدر، فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر فلا بأس عليه، وقال ابن المبارك عن يزيد بن أبي حبيب: أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار، قال: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }، فلما كان يوم أُحد بعد ذلك قال: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } [آل عمران: 155]، إلى قوله: { { وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } [آل عمران: 155]، ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين، قال: { { ثُمَّ وليِتُم مدبرين ... ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [التوبة: 25-27]. وعن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما أنزلت في أهل بدر، وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراماً على غير أهل بدر وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير، والله أعلم.