التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ
١
وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ
٤
وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ
٥
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ
٦
وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ
٧
وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
٨
بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
٩
وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ
١١
وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
١٢
وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
١٣
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ
١٤
-التكوير

مختصر تفسير ابن كثير

قال ابن عباس: { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } يعني أظلمت، وقال العوفي عنه: ذهبت، وقال مجاهد: اضمحلت وذهبت، وقال قتادة: ذهب ضوءها، وقال سعيد بن جبير: { كُوِّرَتْ } غورت، وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض، قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض، فمعنى قوله تعالى: { كُوِّرَتْ } جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمى بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها، روي عن ابن عباس أنه قال: "يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحاً دبوراً فتضرمها ناراً" ، وروى البخاري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الشمس والقمر يكوران يوم القيامة" . وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أي انتثرت كما قال تعالى: { وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ } [الإنفطار: 2]. وأصل الانكدار الانصباب، قال أبي بن كعب: ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واختلطت، ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، فماجوا بعضهم في بعض، { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال: اختلطت، { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } قال: أهملها أهلها، { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال، قالت الجن: نحن نأتيكم بالخبر، قال: فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج، قال: فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وقال ابن عباس: { وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أي تغيرت، وعن يزيد بن أبي مريم مرفوعاً: "انكدرت في جهنم، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم، إلاّ ما كان من عيسى وأمه، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها" .
وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعاً صفصفاً، وقوله: { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } عشار الإبل، قال مجاهد: { عُطِّلَتْ } تركت وسيّبت، وقال أُبّي بن كعب، أهملها أهلها، وقال الربيع بن خيثم: لم تحلب وتخلى عنها أربابها، والمعنى في هذا كله متقارب، والمقصود أن العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها، واحدتها عشراء قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها، بما دهمهم من الأمر العظيم الهائل، وهو أمر يوم القيامة ووقوع مقدماتها، وقيل: بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها، كذلك لا سبيل لهم إليها، وقد قيل في العشار: إنها السحاب تعطل عن المسير بين السماء والأرض لخراب الدنيا، والراجح أنها الإبل، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي جمعت كما قال تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38] قال ابن عباس: يحشر كل شيء حتى الذباب، وقال عكرمة: حشرها موتها، وعن ابن عباس قال: حشر البهائم موتها وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس. وعن الربيع بن خيثم { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال: أتى عليها أمر الله، وعن أُبيّ بن كعب أنه قال: { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } اختلطت، قال ابن جرير: والأولى قول من قال حشرت جمعت، قال الله تعالى: { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً } [ص: 19] أي مجموعة، وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال ابن عباس: يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير ناراً تأجج، وفي "سنن أبي داود": "لا يركب البحر إلاّ حاج أو معتمر أو غاز، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً" الحديث، وقال مجاهد: { سُجِّرَتْ }: أوقدت، وقال الحسن: يبست، وقال الضحّاك وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرة، وقال الضحّاك أيضاً: { سُجِّرَتْ } فجّرت، وقال السدي: فتحت وصيرت، وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي جمع كل شكل إلى نظيره كقوله تعالى: { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22] أي الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، روى النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقرأ: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال: تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم، يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك تزويج الأنفس، وعن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة، وقال مجاهد: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري وعكرمة: زوجت الأرواح بالأبدان، وقيل: زوج المؤمنون بالحور العين، وزوج الكافرون بالشياطين.
وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } المؤودة هي التي كانت أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات، فيوم القيامة تسأل الموءُودة على أي ذنب قُتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذاً؟ وقال ابن عباس: { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } أي سألت أي طالبت بدمها. وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءُودة فقال الإمام أحمد عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت:
"حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، ولا يضر أولادهم ذلك شيئاً، ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي وهو الموءُودة سئلت" . وروى الإمام أحمد عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: "انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضيف، وتفعل، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: لا، قلنا: فإنها كانت وأدت أُختاً لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: الوائدة والموءُودة في النار، إلاّ أن يدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها" . وفي الحديث: "النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموءُودة في الجنة" . وعن قرة قال: سمعت الحسن يقول: "قيل، يا رسول الله مَن في الجنة؟ قال: الموءُودة في الجنة" . وقال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب؛ يقول الله تعالى: { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }، قال ابن عباس: هي المدفونة، وقال عبد الرزاق: "جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت بنات لي في الجاهلية، قال: أعتق عن كل واحدة منهن رقبة قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال فانحر عن كل واحدة منهن بدنة" وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } قال الضحّاك: أعطى كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله، وقال قتادة: يا ابن آدم تملي فيها ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة، فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته، قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } قال مجاهد: اجتذبت؛ وقال السدي: كشفت، وقال الضحّاك: تنكشط فتذهب، وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } قال السدي: أحميت، وقال قتادة: أوقدت، قال: وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم، وقوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } قال الضحّاك: أي قربت إلى أهلها، وقوله تعالى: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } هذا هو الجواب أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذٍ تعلم كل نفس ما عملت، وأحضر ذلك لها كما قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران: 30]، وقال تعالى: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13]. عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما نزلت: { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال عمر: لما بلغ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } قال: لهذا أجري الحديث.