التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ
١٦
وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ
١٧
وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ
١٨
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
١٩
فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٠
وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ
٢١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
٢٢
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
٢٣
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٢٥
-الانشقاق

مختصر تفسير ابن كثير

قال علي وابن عباس: { ٱلشَّفَقِ } الحمرة، وقال عبد الرزاق، عن أبي هريرة: { ٱلشَّفَقِ } البياض، فالشفق هو حمرة الأفق، إما قبل طلوع الشمس، كما قاله مجاهد، وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة، قال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشفق، وفي الحديث: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" ، ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } هو النهار كله، وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي جمع، كأنه أقسم بالضياء والظلام، قال ابن جرير: أقسم الله بالنهار مدبراً وبالليل مقبلاً، وقال آخرون: الشفق اسم للحمرة والبياض، وهو من الأضداد. قال ابن عباس ومجاهد: { وَمَا وَسَقَ } وما جمع، قال قتادة: وما جمع من نجم ودابة، وقال عكرمة: ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه، وقوله تعالى: { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } قال ابن عباس: إذا اجتمع واستوى، وقال الحسن: إذا اجتمع وامتلأ، وقال قتادة: إذا استدار، ومعنى كلامهم إنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً لليل وما وسق.
وقوله تعالى: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال البخاري، قال ابن عباس: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال، قال: هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، وقال الشعبي { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال: لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء، يعني ليلة الإسراء، وقيل: { طَبَقاً عَن طَبقٍ } منزلاً على منزل، ويقال: أمراً بعد أمر، وحالاً بعد حال، وقال السدي: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } أعمال من قبلكم منزلاً بعد منزل، وكأنه أراد معنى الحديث الصحيح:
"لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" . وقال ابن مسعود: { طَبَقاً عَن طَبقٍ } السماء مرة كالدهان، ومرة تنشق، وقال سعيد بن جبير { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال: قوم كانوا في الدنيا خسيسٌ أمرهم فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافاً في الدنيا فاتضعوا في الآخرة، وقال عكرمة: { طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال فطيماً بعدما كان رضيعاً، وشيخاً بعد ما كان شاباً، وقال الحسن البصري: { طَبَقاً عَن طَبقٍ } يقول: حالاً بعد حال، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقراً بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقماً بعد صحة. ثم قال ابن جرير: والصواب من التأويل قول من قال: لتركبن أنت يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك ـ وإن كان الخطاب موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ جميع الناس، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأحواله أهوالاً، وقوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً؟ وقوله تعالى: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق، { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } قال مجاهد وقتادة: يكتمون في صدورهم، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عزَّ وجلَّ قد أعد لهم عذاباً إليماً، وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي بجوارحهم { لَهُمْ أَجْرٌ } أي في الدار الآخرة { غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد: غير محسوب، وحاصل قولهما: أنه غير مقطوع، كما قال تعالى: { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 108]، وقال السدي: قال بعضهم: غير ممنون: غير منقوص، وقال بعضهم: غير ممنون عليهم، وهذا القول قد أنكره غير واحد، فإن الله عزَّ وجلَّ له المنة على أهل الجنة، في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائماً سرمداً، والحمد لله وحده أبداً.