التفاسير

< >
عرض

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٣٦
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٧
-البقرة

تفسير آيات الأحكام

[19] خطبة المرأة واستحقاق المهر
التحليل اللفظي
{ عَرَّضْتُمْ }: التعريض: الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه.
قال في "اللسان": وعرّض بالشيء: لم يبيّنه، والتعريض خلاف التصريح، والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث:
"إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب" والتعريضُ في خِطْبة المرأة: أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول: إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير، كما يقول المحتاج للمعونة: جئت لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا:

وحسبك بالتسليم مني تقاضينا

{ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ }: الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح، وبالضم معناها: ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة، وفي الحديث "لا يخطِبن أحدكم على خِطْبة أخيه" .
{ أَكْنَنتُمْ }: سترتم وأضمرتم، والإكنان: السرّ والخفاء.
قال ابن قتيبة: أكننتُ الشيء: إذا سترته، وكننتُه: إذا صُنته، ومنه قوله تعالى:
{ { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [الصافات: 49].
{ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً }: المراد بالسر هنا: النكاح ذكره الزجاج وأنشد:

ويحرم سرّ جارتهم عليهمويأكل جارُهم أنف القصاع

قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين.
والمعنى: لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً.
{ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ }: العُقدة من العقد وهو الشدُ، وفي المثل: (يا عاقدُ اذكر حلاً).
قال الراغب: العُقدة: اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما.
وقال الزجاج معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، حذفت (على) استخفافاً كما قالوا: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن.
{ أَجَلَهُ }: أي نهايته، والمراد بالكتاب: الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة.
ومعنى قوله: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ }: أي حتى تنقضي العدة.
{ فَٱحْذَرُوهُ }: أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره، وفيه معنى التهديد والوعيد.
{ حَلِيمٌ }: يمهل العقوبة فلا يعجّل بها، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل.
{ ٱلْمُوسِعِ }: الذي يكون في سعة لغناه، يقال أوسع الرجل: إذا كثر ماله.
{ ٱلْمُقْتِرِ }: الذي يكون في ضيق لفقره، يقال: أقتر الرجل: إذا افتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة.
{ تَمَسُّوهُنَّ }: المسّ: إمساك الشيء باليد، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ.
قال الراغب: المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس، وكنيّ به عن الجماع فقيل: مسّها وماسّها قال تعالى:
{ { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [آل عمران: 47].
{ فَرِيضَةً }: الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله.
{ يَعْفُونَ }: معناه: يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر.
المعنى الإجمالي
بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه: "لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات، بطريق التلميح لا التصريح، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن، والرغبة في الزواج بهن، ولا يؤاخذكم على ذلك، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه.
ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطييباً لخاطرهن، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها، أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة.
ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى.
سبب النزول
قال الخازن في "تفسيره":
"نزلت هذه الآية { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوتك" .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } وقرأ حمزة والكسائي (تُماسُوهنّ) بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة.
2 - قرأ الجمهور { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ } بالرفع، وقرأ ابن كثير ونافع (قدْرُه) بسكون الدال.
3 - قرأ الجمهور { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } وقرئ (وأن يَعْفوا) بالياء.
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } لكنْ حرفُ استدراك، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و(سرّاً) مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً.
ثانياً - قوله تعالى: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح.
ثالثاً - قوله تعالى: { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما: مصدرية والزمان معها محذوف تقديره: في زمن ترك مسهنّ، وقيل: (ما) شرطية أي (إن لم تمسوهن).
رابعاً - قوله تعالى: { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم، و(ما) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: أباح القرآن (التعريض) في خطبة المعتدة دون التصريح، ومن صور التعريض أن يقول: إنك لجميلة، أو صالحة، أو نافقة، أو يذكر الشخص مآثره أمامها.
روى ابن المبارك عن عبد الرحمٰن بن سليمان عن خالته (سُكينة بنت حنظلة) قالت:
"دخل عليّ (أبو جعفر) محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حين توفي عنها زوجها (أبو سلمة) فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة" .
اللطيفة الثانية: قال الزمخشري: "السرّ في الآية { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر، قال الأعشى:

ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّهاعليكَ حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا

ثمّ عبّر فيه عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح.
اللطيفة الثالثة: ذكر العزم في الآية { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى.
اللطيفة الرابعة: عبّر تعالى بالمساس عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم.
قال أبو مسلم: "وإنما كنّى تعالى بقوله: { تَمَسُّوهُنَّ } عن المجامعة، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به".
اللطيفة الخامسة: الخطاب في قوله تعالى: { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } وفي قوله: { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب.
قال الفخر: "إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور، لأن الذكورة أصل، والتأنيث فرع، ألا ترى أنك تقول: قائم ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة".
اللطيفة السادسة: الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال.
قال ابن عباس: إن كان موسراً متّعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب.
اللطيفة السابعة: روي أن (الحسن بن علي) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة:

متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق

وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ (عائشة الخثعمية) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً، فتلفعت بجلبابها، وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت:

متاع قليل من حبيب مفارق

فلما أخبره الرسول بكى وقال: لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما هو حكم خطبة النساء؟
النساء في حكم (الخِطْبة) على ثلاثة أقسام:
أحدها: التي تجوز خطبتها (تعريضاً وتصريحاً) وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج، وليست في العدة، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها.
الثاني: التي لا تجوز خطبتها (لا تصريحاً، ولا تعريضاً) وهي التي في عصمة الزوجية، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة.
الثالث: التي تجوز خطبتها (تعريضاً) لا (تصريحاً) وهي المعتدة في الوفاة، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح.
والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعيرحمه الله : "لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح، وجب أن يكون التصريح بخلافه" وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة.
الحكم الثاني: هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟
حرّم الله النكاح في العدة، وأوجب التربص على الزوجة، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق، أو في عدة الوفاة، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } على تحريم العقد على المعتدة، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه. وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح، وحرمت على التأبيد عند (مالك وأحمد) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث.
وقال أبو حنيفة والشافعي: يُفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، وقالوا: إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه.
قضاء عمر رضي الله عنه في الحادثة
روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال: "بلغ عمر أن امرأةً من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما، وقال: لا ينكحْها أبداً، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرّم الله وجهه فقال: يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء. فبلغ ذلك عمر فقال: يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة".
الحكم الثالث: ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟
وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي:
أولاً: مطّلقة مدخول بها، مسمّى لها المهر.
ثانياً: مطلّقة غير مدخول بها، ولا مسمّى لها المهر.
ثالثاً: مطلّقة غير مدخول بها، وقد فرض لها المهر.
رابعاً: مطلّقة مدخول بها، وغير مفروض لها المهر.
فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية، عدّتُها ثلاثة قروء، ولا يُسترد منها شيء من المهر
{ { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [البقرة: 228] { { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [البقرة: 229].
والثانية: ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، ليس لها مهرٌ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ... } [البقرة: 236] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تعالى في سورة الأحزاب [49]
{ { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } } والثالثة: ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }.
والرابعة: ذكرها الله تعالى في سورة النساء [24] بقوله:
{ { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء: 24] فهذه يجب لها مهر المثل. قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم.
الحكم الرابع: هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟
دل قوله تعالى: { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟
فذهب (الحسن البصري) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى:
{ { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241].
وقال مالك: إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى:
{ { حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241] و{ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
وذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أنها واجبة للمطلّقة التي لم يفرض لها مهر، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن (ابن عمر) و(ابن عباس) و(علي) وغيرهم، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم.
الحكم الخامس: ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟
المتعة: ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة، عوناً لها وإكراماً، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد.
قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
وقال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة.
وقال أبو حنيفة: أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر.
وقال أحمد: هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة، ونقل عنه أنه قال: هي بقدر يسار الزوج وإعساره { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } وهي مقدرة باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن.
2 - حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد.
3 - المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر، ومستحبة لغيرها من المطلقات.
4 - إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملّحة.
5 - المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً، وهذه (المتعة) واجبة للمطلّقة قبل الدخول، التي لم يُسمّ مهر، ومستحبة لسائر المطلقات. والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله، لا من قِبَلها، ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة، ويتسامع الناس فيقولون: إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان
{ { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } [البقرة: 237] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟! وأين نحن من إرشاداته الحكيمة، وآدابه الفاضلة؟!