التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١
وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
٢
وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
٣
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
-الأحزاب

تفسير آيات الأحكام

[1] التبني في الجاهلية والإسلام
التحليل اللفظي
{ ٱتَّقِ ٱللَّهَ }: أي أثبت على تقوى الله ودم عليها، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير، واجتنابُ كل شر، وأصله من (الوقاية) بمعنى الحفظ والصيانة.
قال في "اللسان": التقوى، والإتّقاء، والتّقاة، والتّقيّة كله واحد، ورجل تقيّ: معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح.
قال ابن الوردي:

واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل
ليس من يقطعُ طرقاً بطَلاً إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل

{ ٱلْكَٰفِرِينَ }: جمع كافر، وهو الجاحد لنعم الله، مشتق من (الكَفْر) وهو الستر، وكل من ستر شيئاً فقد كفره، ولهذا يسمّى الزارع (كافراً) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد: 20] أي أعجب الزرّاع. ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء.
وفي الصحاح: والكافر: الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء، وكفر النعمة جحدها.
وقال الجوهري: ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عز وجلّ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده.
قال بعض العلماء: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، ويكفر بقلبه ولسانه.
وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس، وكفر أهل الكتاب
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89].
وكفر عناد وهو: أن يعترف بقلبه، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه.
وكفر نفاق وهو: أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين.
{ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ }: جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مشتق من (النَّفَق) وهو سَرَب في الأرض، والنافقاء: جُحْرُ الضبّ واليربوع، قال أبو عبيد: سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض، وقيل: إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه. فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء، فهو يدخل من (النافقاء) ويخرج من (القاصعاء) أو بالعكس، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه.
وقال في "اللسان": وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً.
{ وَكِيلاً }: الوكيل: الحافظ، الكفيل بأرزاق العباد، والمتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره، فيركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره، وفي التنزيل:
{ { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به. والتوكل: اللجوء والاعتماد يقال: وكلتُ أمري إلى فلان أي ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه قال تعالى: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
والمعنى: اعتمد على الله والجأ إليه، وكفى به حافظاً وكفيلاً.
قال أبو السعود: { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ } أي فوّض جميع أمورك إليه { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور.
{ تُظَٰهِرُونَ }: نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، وكان الظّهار عندهم طلاقاً، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته.
قال في "اللسان": وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ، لأنّ الظهر موضع الركوب، فكأنه قال: ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية.
{ أَدْعِيَآءَكُمْ }: جمع دَعيّ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن، وهو التبني الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام، وقد تبنّى عليه السلام (زيد بن حارثة) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله.
قال في "اللسان": والدّعي: المنسوب إلى غير أبيه، والدِّعوة بكسر الدال: ادّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه، وقال ابن شُميل: الدَّعوة بالفتح في الطعام، والدِّعوة بالكسر في النسب.
وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة.
وقال الشاعر:

دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه ليُلحقه بذي النسب الصّميم
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم

{ أَقْسَطُ }: بمعنى أعدل أفعل تفضيل، يقال: أقْسَط إذا عدل، وقَسَط إذا جار وظلم، فالرباعي (أقسط) يأتي اسم الفاعل منه (مُقْسِط) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9] والثلاثي (قَسَط) يأتي اسم الفاعل منه (قاسط) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [الجن: 15] فكأنّ الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال: شكا إليه فأشكاه، أي أزال شكواه.
والقِسط: العدل قال تعالى:
{ { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } [الرحمٰن: 9].
{ وَمَوَٰلِيكُمْ }: أي أولياؤكم في الدين، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه، والمملوك سيّده.
ومعنى الآية: فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي، أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين.
{ غَفُوراً }: يغفر ذنوب عباده، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا
{ { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82].
{ رَّحِيماً }: بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
المعنى الإجمالي
أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، لأنهم أعداء الله ورسوله، وأعداء المؤمنين، لا يؤتمنون على شيء، ولا يستشارون في أمر، فظاهرهم غير باطنهم، وصورتُهم غير حقيقتهم، لذلك ينبغي الحذر منهم، وعدم الاستجابة لهم، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله عز وجلّ.
والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى، وتعمل بهدي القرآن.
وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة، ومنكراتٍ كثيرة، زعموا أنّها من الدين، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل، بالحق الساطع، والبرهان القاطع، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم.
يقول الله تعالى ما معناه: "يا أيها النبي تحل بالتقوى، وتمسّك بطاعة الله، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، فإنّ الله عالم بأحوال العباد، لا تخفى عليه خافية، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك، من الشرع القويم، والدين الحكيم، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين، فإنّ الله معك فتوكل عليه، والجأ في جميع أمورك إليه، فهو الحافظ والناصر. ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } [المجادلة: 2] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات!! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم، مع أنهم ليسوا من أصلابهم!!
ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق.
ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم، لأنه أعدل وأقسط فقال: فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم، فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً، يغفر لعباده زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها:
أولاً: رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، ومُعتّب بن قُشَيْر، والجدّ بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياء، وطلبوا منه أن يرفض ذكر (اللاَّت والعُزّى) بسوء. وأن يقول: إنّ لها شفاعة، فكره صلى الله عليه وسلم ذلك، ونزلت هذه الآية: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ }.
ثانياً: وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى (جميل بن مَعْمَر الفِهْري) كان لبيباً، حافظاً لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه، وكان يقول: "إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد"، فلمّا كان يوم بدر، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه (أبو سفيان) وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، قال: فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟
قال: ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!!
فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... } الآية.
ثالثاً: وروى السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تبنّى (زيد بن حارثة) وأعتقه قبل الوحي، فلمّا تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } الآية.
رابعاً: وروى البخاري في "صحيحه" عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما كنّا ندعو (زيد بن حارثة) إلاّ زيد بن محمد، حتى نزلت الآية الكريمة { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ... }.
وجوه القراءات
أولاً: قرأ الجمهور { إنّ اللَّهَ بما تَعْملون } بتاء الخطاب، وقرأ أبو عمرو (يعملون) بياء الغَيْبة، قال أبو حيّان: وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات.
ثانياً: قرأ الجمهور { اللاّئي تُظَاهرون منهنّ } بالهمز وياء بعدها، وقرأ (أبو عمرو) بياء ساكنة (واللايْ) بدلاً من الهمزة، وهي لغة قريش وقرأ (ورش) بياء مختلسة الكسرة.
ثالثاً: قرأ الجمهور { تُظَاهرون منهنّ } بضم التاء، وفتح الظّاء، من ظاهر وقرأ (أبو عمرو) بشدّ الظاهر { تَظّاهرون } وقرأ هارون (تَظْهَرون) بفتح التاء والهاء، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره "البحر المحيط" أنّ فيها تسع قراءات.
رابعاً: قرأ الجمهور { وهو يَهْدي السّبيلَ } بفتح الياء مضارع هدى، وقرأ قتادة (يُهَدِّي) بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال...
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } جعل هنا بمعنى (خلق) فهي تنصب مفعولاً واحداً، بخلاف قوله { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } فإنها بمعنى: (صيّر) تنصب مفعولين، وقوله: (من قلبين) مِنْ صلة (أي زائدة) و(قلبين) مفعول جعل، و(في جوفه) متعلق بجَعَل.
ثانياً: قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ }... الحقّ: منصوب لوجهين:
أحدهما: أن يكون مفعولاً لـ (يقول).
والثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره: والله يقول القول الحق.
ثالثاً: قوله تعالى: { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } (ما) يجوز فيها وجهان: الجرّ بالعطف على (ما) في قوله تعالى: { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ }.
والرفعُ على الابتداء وتقديره: ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة
{ { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } [المائدة: 41] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الكريم بلفظ (النبوة) أو وصف (الرسالة) فيه تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء. كما فيه تعليم لنا الأدب معه، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم { { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً... } [النور: 63].
قال أبو حيان في تفسيره "البحر المحيط" ما نصُّه:
"نداء النبي صلى الله عليه وسلم بـ (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول) هو على سبيل التشريف والتكرمة، والتنويه بمحلّه وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه كقوله: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى.. وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله، صرّح باسمه فقال:
{ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } [الفتح: 29] { { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [آل عمران: 144] أعلم أنّه رسوله. ولقّنهم أن يسمّوه بذلك.
وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء - يعني بوصف النبوة أو الرسالة - كقوله تعالى:
{ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] وقوله: { { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ } [الفرقان: 30] وقوله: { { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6].
اللطيفة الثانية: فإن قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو سيّد المتقين؟!
فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [النساء: 136] أي اثبتوا على الإيمان، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم.
وقيل: إن الأمر خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم موجه إليه في الظاهر. والمراد به أمته، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }.
قال الإمام الفخررحمه الله : "الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور، بالمأمور به، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس: اجلس، وللساكت: اسكت، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه أمر بالمداومة، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس: اجلس هٰهنا إلى أن أجيئك، ويقول القائلُ للساكت: قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ، أي دمْ على ما أنتَ عليه.
والثاني: أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمُه ومرتبتُه، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة. فقوله: (اتق الله) يراد منه الترقي الدائم، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فناسب الأمر به صلى الله عليه وسلم بالتقوى.
اللطيفة الثالثة: السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية، هو أنه بمثابة ضرب مثل، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح، فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ (المُظَاهَر) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية، وجعل (المتبنّى) ابناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع.
ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونُ الرجل له قلبان، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك، وضربه مثلاً للظهار، والتبني. فكأنّ الآية تقول: كما لا يكون لرجلٍ قلبان، لا تكون المظاهَرُ منها أمّاً، ولا المتبنّى ابناً، والله أعلم بأسرار كتابه.
اللطيفة الرابعة: التنكير في قوله تعالى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ } وإدخال (مِنْ) على الجملة بعده في قوله (مِنْ قلبين) يفيد العموم والاستغراق، ومعنى الآية: ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه. فهو نفي للشيء بطريق (التأكيد والاستغراق).
وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أنّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار، والتكذيب للمدّعى، فهو كقوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46].
فإذا سمع الإنسان ذلك، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين. فسارع عقله إلى إنكاره.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ } فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع. كما نقول: (هذا حبرٌ على ورق) أي ليس له وجود أو تطبيق.
قال الزمخشري: (من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم. فلماذا ذكر قوله (بأفواهكم)؟ الجواب: أنّ فيه إشارة إلى أنّ هذا القول. ليس له من الحقيقة والواقع نصيب. إنما هو مجرد ادعاء باللسان. وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة) والله أعلم.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } الآية.
قال الإمام الفخر: فيه إشارة إلى معنى لطيف. وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل. وإمّا عن شرع. وفي الدّعي (الولد المتبنّى) لم توجد الحقيقة. ولا ورد الشرع. فإنّ قولهم: هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم. والله تعالى يقول: هي لك حلال. فقولهم لا اعتبار به لأنه قول من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه. وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم. فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم!؟.
اللطيفة السابعة: صيغة (فعيل) في اللغة العربية تفيد المبالغة، فقوله تعالى:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 17] إنما يقصد به المبالغة، لأن الصيغة تقتضي ذلك، ففرق في التعبير بين قولك (عالم، وعليم، وعلاّم) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة، لأنّ (فعّال وفعيل) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك:

فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ
فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل

فالمراد في الآية الكريمة من لفظه (عليم) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. و(الحكيم) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره.
اللطيفة الثامنة: كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان، وقد اشتهر (جميل بن مَعْمر) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه، فكانوا يسمونه بذي القلبين، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء:

وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر

وكان هذا الجهول يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم منه. فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل. وهو يحمل إحدى نعليه بيده، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري، فظهر للناس كذبه. وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره.
اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ }.. أفعل التفضيل ليس (على بابه) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً.
والمعنى: دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته. وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه.. وجوّز بعضهم أن يكون (على بابه) جارياً على سبيل التهكّم بهم. والمعنى: دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل تقع المعصية من الأنبياء؟
من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي. فإنّ (العصمة) من صفاتهم. فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله عز وجلّ. لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم. فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر. لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف (عصمة الأنبياء) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام. فقوله تعالى هنا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ } لا يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى طاعتهم، أو أحبّ موافقتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال. وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } حيث جاء بصيغة الجمع وقد عرفت ما فيه.
الحكم الثاني: هل الظهار محرّم في الشريعة الإسلامية؟
دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق. حيث تثبت به (الحرمة المؤبدة) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها - في اعتقادهم - أماً كالأم من النسب، فأبطل الإسلام ذلك، واعتبره بهتاناً وضلالاً، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره. قال تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [المجادلة: 2] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة.
الحكم الثالث: هل يجوز التبني في الإسلام؟
كما أبطل الإسلام الظهار أبطل (التبني) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه نسبة الولد إلى غير أبيه. وهو من الكبائر التي توجب السخط واللعنة فقد أخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً" .
وجاء في الحديث الصحيح: "ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "من ادّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير أبيه - فالجنة عليه حرام" .
قال في "تفسير روح المعاني": "وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية.. وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل (التحنن والشفقة) يا ابني، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة".
وقال (ابن كثير) في تفسيره: (فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن (ابن عباس) رضي الله عنهما قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).
كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم أنساً فقال له: يا بنيّ.
الحكم الرابع: ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة؟
نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح (الإثم) عمن أخطأ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من (الخطأ والعمد) في الآية الكريمة على قولين:
أ- ذهب (مجاهد) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان، والعمد ما كان بعد النهي والبيان.
ب- وذهب (قتادة) إلى أن الخطأ هنا ما كان عن غير قصد فقد أخرج (ابن جرير) عن قتادة أنه قال في الآية: (لو دعوت رجلاً لغير أبيه، وأنت ترى أي (تظنّ) أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه) أي فعليك فيه الإثم.
فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم (الأدعياء) أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي، ويصبح معنى الآية: ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه من التبني في الجاهلية قبل أن تعرفوا أحكام الإسلام، ولكن الحرج والإثم فيما فعلتموه بعد الإسلام، وبيان الأحكام.
وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد، والعمد ما كان عن إصرار وقصد، ويصبح معنى الآية: ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان، وأمّا ما تقصّدتم نسبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج.
وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره "البحر المحيط" الرأي الثاني، وضعّف الأول وقال: (قوله تعالى: { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } قيل: المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي.
وقيل: فيما سبق إليه اللسان، إمّا على سبيل الغلط، أو على سبيل التحنّن والشفقة، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم).
الحكم الخامس: ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية؟
الاستلحاق الذي أباحه الإسلام، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في شيء، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم (المستلحق) بكسر الحاء أنّ (المستلحَق) بفتح الحاء ابنه. أو يظنّ ذلك ظناً قوياً، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه. وأحلّه له. وأثبت نسبه منه. بشروط مبينة في كتب الفقه. أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
الحكم السادس: هل يباح قول: يا أخي أو يا مولاي؟
ظاهر الآية الكريمة { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ } أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوّة في الدين، والولاية فيه، لا أخوّة النسب وقرابته، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم: هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين.
وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً. وكان دعاؤه بـ (يا أخي) أو (يا مولاي) تعظيماً له فإنه يكون حراماً، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يُدْعى باسمه، أو بقولك: يا عبد الله، أو يا هذا، ففي الحديث الشريف (لا تقولوا للمنافق يا سيّد، فإنه إن يك سيّداً فقد أغضبتم ربكم).
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - تقوى الله عز وجل زاد المؤمن. ووصية الله في الأولين والآخرين.
ثانياً - من شروط الإيمان التوكل على الله، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات.
ثالثاً - الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها.
رابعاً - ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل.
خامساً - الاعتقاد بأن الزوجة (المظاهَر منها) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء.
سادساً - حرمة (التبنّي) في الإسلام، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم.
سابعاً - جواز قول الإنسان يا (أخي) ويا (مولاي) إذا قصد أخوّة الدين وولايته.
ثامناً - الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صدر منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
"بدعة التبني في الجاهلية"
أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية، والأمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية، وتعيش في ضلالات وأوهام، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، هي من بقايا مخلّفات (العصر الجاهلي) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ، وجهالة، وكفر، وضلالة!!
فكان من رحمة الله تعالى أن انتشل الأمة العربية، من أوحال الجاهلية. وخلّصها من تلك العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، وغذاها بلَبَان الإيمان، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس.
ولقد كانت (بدعة التبنّي) من أظهر بدع الجاهلية، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد،
{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23].
كان العربي في الجاهلية. يتبنّى الرجل منهم ولد غيره، فيقول له: (أنتَ ابني أرثك وترثني) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها. من الإرث، والنكاح، والطلاق، ومحرمات المصاهرة، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف.
ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء. جرياً على عادة العرب في التبني. ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء حكم التبني. وإبطال تلك البدعة المنكرة، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن.
فتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الأبناء، هو (زيد بن حارثة) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تبنّيه، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل.
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحهما" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"إنّ زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل" .
أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عليه الصلاة والسلام.
وخلاصة القصة: أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة (خديجة بنت خويلد) فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه.
وكان أبوه (حارثة بن شرحبيل) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها:

بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل

وبلغ (حارثةَ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد: إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال: أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا: أحسنتَ فجزاك الله خيراً.
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زيد: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد: هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال: ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني بمنزلة الوالد والعم.
فقال له أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استطيع فراقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال: اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني.. فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلى الله عليه وسلم. فلم يزل في الجاهلية يدعى (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم. { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى:
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ... } [الأحزاب: 40] الآية.
وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد.