التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٠
تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
٥١
لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً
٥٢
-الأحزاب

تفسير آيات الأحكام

[4] أحكام زواج النبي صلى الله عليه وسلم
التحليل اللفظي
{ أَحْلَلْنَا }: الإحلال معناه الإباحة، يقال: أحللت له الشيء: أي جعلته له حلالاً، وكل شيء أباحه الله فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام. قال في "لسان العرب": والحِلّ والحلال والحليل: نقيض الحرام. وأحلّه الله وحلّله.
وقوله تعالى في النَّسيء:
{ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } [التوبة: 37] وهذا لك حلّ أي حلال. وقال ابن عباس عن ماء زمزم: هي حِلّ وبلّ أي حلال محلّل.
{ أُجُورَهُنَّ }: مهورهنّ، والمراد في الآية: الأزواج اللواتي تزوجهنّ عليه السلام بصداق، وسمّي المهر أجراً لأنه مقابل الاستمتاع بالمرأة في الظاهر. وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة، لإظهار (خطر المحل) وشرفه، كما قال تعالى:
{ وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً } [النساء: 4] أي هبة وعطيّةً عن طيب نفس. فالمهر تكريم للمرأة، وإيناس لها، وتطييب لخاطرها. وليس هو مقابل المنفعة أو الاستمتاع كما نبّه عليه الفقهاء.
{ مَلَكَتْ يَمِينُكَ }: يعني الجواري والإماء، لأنهنّ يُتملكْن عن طريق الحرب والجهاد، بالجهد والتضحية، وبذل النفس والمال في سبيل الله، ولذلك أُطلق عليهن (ملك اليمين).
{ أَفَآءَ ٱللَّهُ }: أي ممّا غنمته منهنّ، وممَّا ردّه الله عليك من الكفار، كصفية وجويرية، فإنه عليه السلام أعتقهما وتزوجهما. وأصل الفيء: الرجوع، وسمّي هذا المال فيئاً لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكفار بدون قتال، فكأنه كان في الأصل للمسلمين فرجع إليهم بدون حرب ولا قتال.
{ هَاجَرْنَ مَعَكَ }: المراد بالهجرة هي هجرته عليه السلام إلى المدينة المنورة، والمعية هنا (معك) يراد بها الاشتراك في الهجرة، لا في الصحبة، فمن هاجرت حلّت له سواءً هاجرت في صحبته أو لم تهاجر في صحبته. قال أبو حيان: تقول: دخل فلان معي، وخرج معي. أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. وإن قلت: فرجعنا معاً اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل. والاشتراك في الزمان.
{ يَسْتَنكِحَهَا }: الاستنكاح طلب النكاح، لأن السين والتاء للطلب، مثل استنصر طلب النصرة، واستعجل طلب العجلة، والمراد من قوله: (إن أراد النبي) أي إن رغب النبي في نكاحها، فالإرادة هنا بمعنى الرغبة في النكاح.
{ خَالِصَةً }: أي خاصة لك لا يشاركك فيها أحد، يقال: هذا الشيء خالصة لك: أي خالص لك خاصة. قال ابن كثير في قوله تعالى: { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لا تحل الموهوبة لغيرك. ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل، لم تحلّ له حتى يعطيها شيئاً. وكذا قال مجاهد والشعبي.
{ مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ }: أي ما أوجبنا على المؤمنين من نفقة، ومهر، وشهود في العقد، وعدم تجاوز أربع من النساء. وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور.
{ حَرَجٌ }: أي ضيق ومشقة، ومعنى قوله تعالى: { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك. حيث اختصصناك بما هو أولى وأفضل، وأحللنا لك أجناس المنكوحات توسعة لك، وتيسيراً عليك، لتتفرغ لشئون الدعوة والرسالة.
{ تُرْجِي }: قال في "لسان العرب": أرجأ الأمر: أخّره، وتركُ الهمزة لغة، يقال: أرجأتُ الأمر وأرجيتُه إذا أخرتَه، والإرجاء: التأخير ومنه سمّيت المرجئة، وهم صنف من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فهم يرون أنهم لو لم يصلّوا ويصوموا لنجّاهم إيمانهم.
قال ابن عباس في معنى الآية: تطلّق من تشاء من نسائك، وتمسك من تشاء منهن، لا حرج عليك. وقال مجاهد والضحاك: المعنى تَقْسم لمن شئت، وتؤخر عنك من شئت. وتقلّل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أنّ هذا حكم الله وقضاؤه زالت الإحنة والغيرة عنهن، ورضين وقرّت أعينهنّ.
{ وَتُؤْوِيۤ }: أي تضمّ، يقال أوى وآوى بمعنى واحد قال تعالى:
{ { آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ } [يوسف: 69] أي ضمّه إليه وأنزله معه. وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار "أبايعكم على أن تُؤووني وتنصروني" أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم كذا في "اللسان".
وقال ابن قتيبة: يقال: آويت فلاناً إليّ بمدّ الألف: إذا ضممتَه إليك، وأويت إلى بني فلان، بقصر الألف: إذا لجأت إليهم.
قال ابن الجوزي: (وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحَبة نسائه كيف شاء، من غير إيجاب القسمة عليه والتسوية بينهنّ، غير أنه كان يسوّي بينهن).
{ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ }: أي تطيب نفوسهن بتلك القسمة ومعنى الآية: ذلك التخيير الذي خيّرناك في صحبتهن، أقرب إلى رضاهنّ وانتفاء حزنهنّ، لأنهنّ إذا علمن أنّ هذا أمر من الله كان ذلك أطيب لأنفسهن، فلا يشعرن بالحزن والألم.
قال أبو السعود: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي أقرب إلى قرّة عيونهن، ورضاهنّ جميعاً، لأنه حكم كلهنّ فيه سواء، ثمّ إن سوّيت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجّحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن).
{ عَلِيماً حَلِيماً }: أي مبالغاً في العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونه، حليماً لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها، فإنه تعالى يمهل ولا يهمل.
المعنى الإجمالي
أحلّ الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم صنوفاً من النساء، صنفاً يدفع له المهر (المهورات) وصنفاً يتمتع به بملك اليمين (المملوكات)، وصنفاً من أقاربه من نساء قريش، ونساء بني زُهرة (المهاجرات)، وصنفاً رابعاً ينكحه بدون مهر (الواهبات) أنفسهنّ... وقد خص الباري جلّ وعلا رسوله الكريم في أحكام الشريعة بخصائص لم يشاركه فيها أحد، وذلك توسعة عليه، وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، فتزوجه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع، واختصاصه بنكاح الواهبات أنفسهن بدون مهر، وعدم وجوب القَسْم عليه بين الأزواج، كل ذلك خاص به صلوات الله عليه تشريفاً له وتكريماً، وإظهاراً لمقامه السامي عند الله تعالى.
روى مسلم في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنتُ أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل!! حتى أنزل الله تعالى { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فقلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك).
ومعنى الآيات الكريمة: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن، وأحللنا لك ما ملكت يدك من السبي في الحرب. وأحللنا لك قريباتك من بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللاتي هاجرن معك، وأحللنا لك النساء المؤمنات الصالحات، اللواتي وهبن أنفسهنّ، حباً في الله وفي رسوله، ورغبة في التقرب لك. إن أردت أن تتزوّج من شئت منهن، بدون مهر خالصة لك من دون المؤمنين، قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في زوجاتهم ورفيقاتهم من شرائط العقد، ووجوب المهر في غير المملوكات، وأمّا أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك، لكيلا يكون عليك ضيق أو حرج، ولك - أيها الرسول - أن تترك من زوجاتك من تشاء، وتضم إليك من تشاء، وتقسم لمن تشاء منهن، وأن تراجع بعد الطلاق من تريد، ذلك أقرب أن ترتاح قلوبهن لعلمهنّ أنه بأمر الله وترخيصه لك، فيرضَيْن بكل ما تفعل، ويقبَلْن به عن طيب نفس، وكان الله عليماً بما انطوت عليه القلوب، حليماً لا يعاجل بالعقوبة لمن خالف أمره وعصاه.
سبب النزول
لما نزلت آية التخيير
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب: 28]. أشفق نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلقهنّ فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا في عصمتك فنزلت هذه الآية { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } الآية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: الإحلال معناه الإباحة والحلّ، وإسناده إلى الله جل جلاله { أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ } دال على أن التحليل والتحريم خاص به سبحانه والتشريع لله وحده والرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله ولا يملك أحد سلطة التشريع
{ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [يوسف: 40].
اللطيفة الثانية: في وصفه تعالى النساء بقوله: { ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } تنبيه على أن الله عز وجلّ اختار لنبيّه صلى الله عليه وسلم الأفضل والأكمل، فإنّ إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، والتعجيل كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقد شكا بعض الصحابة عدم القدرة على التزوج، فقال له عليه السلام: (فأين درعك الحطمية؟).
وليس تأخير بعض المهر وتقسيمه إلى (معجّل ومؤجّل) إلا شيء استحدثه العرف، واقتضاه التغالي بالمهور، أو الحذر على مستقبل الفتاة من الطلاق بعد أن فسد حال الناس. فذكرُ الأجور ليس للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان الأفضل.
اللطيفة الثالثة: تخصيص ما ملكت يمينه في قوله تعالى: { مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } للإشارة إلى أنها أحلّ وأطيب مما تشتري من الجلب. فما سُبي من دار الحرب قيل فيه (سبي طيبة)، وما كان عن طريق العهد قيل (سبي خبيثة) والله تعالى لا يرغب لنبيّه إلا في الطيّب، دون الخبيث. أفاده أبو حيان في "البحر المحيط".
اللطيفة الرابعة: ذُكرَ العم والخال مفرداً، وجُمعَ العمات والخالات في قوله تعالى: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ } قال ابن العربي: والحكمة في ذلك أن العم، والخال في الإطلاق (اسم جنس) كالشاعر، والراجز، وليس كذلك في العمة والخالة، وقد جاء الكلام عليه بغاية البيان، على العرف الذي جرى عليه العرب كما قيل: (قالت بنات العم يا سلمى).
وكقولهم: (إنّ بني عمك فيهم رماح) وهذا دقيق فتأملوه.
اللطيفة الخامسة: العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: (إن أراد النبيّ) ثمّ الرجوع إلى الخطاب في قوله (خالصة لك) وذكره صلى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان (النبوّة) للدّلالة على أنّ الاختصاص كان من الله تعالى تكرمةً له لأجل النبوَّة، والتكريرُ للتفخيم من شأنه صلى الله عليه وسلم، وبيان استحقاقه الكرامة لنبوته.
قال الزجّاج: وإنما قال: (إن وهبتْ نفسها للنبيّ) ولم يقل: لك، لأنه لو قال: "لك" جاز أن يتوهّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاز في بنات العم وبنات العمات.
وجوه القراءات
أولاً: قوله تعالى: { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قرأ الجمهور (وامرأةً) بالنصب عطفاً على مفعول (أحلَلْنا) و(إنْ وهبت) بكسر الهمزة شرطية، وقرأ أبو حيْوة (وامرأةٌ مؤمنةٌ) بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف أي أحللناها لك.
وقرأ الحسن (أنْ وهبت) بفتح الهمزة وتقديره: لأن وهبت نفسها للنبيّ.
ثانياً: قرأ نافع وحمزة والكسائي (تُرجي) بغير همز، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر (تُرْجئ) مهموزاً والمعنى واحد.
ثالثاً: قرأ ابن محيصن، والجوْني (أنْ تُقِرّ) بضم التاء وكسر القاف (أعينَهُن) بنصب النون، وقرأ الجمهور (أنْ تَقَرّ أعينُهنّ) فالأولى من (أقرّ) الرباعي، والثانية من (قرّ) الثلاثي فتنبه.
رابعاً: قوله تعالى: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ } قرأ الجمهور (يحلّ) بالياء، وقرأ أبو عمرو (تَحلّ) بالتاء.
قال ابن الجوزي: والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان.
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } اللاتي: اسم موصول للمؤنث في محل نصب صفة لقوله (أزواجك) و(أجورهنّ) مفعول ثانٍ لآتيت لأنها بمعنى أعطيت، والمفعول الأول محذوف تقديره: آتيتهُنّ.
ثانياً: قوله تعالى: { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً } في نصب (امرأةً) وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً بالعطف على قوله (أزواجَك) والعامل فيه (أحللنا).
والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير فعل، وتقديره: ونُحلّ لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وليس معطوفاً على المنصوب بـ (أحللنا) لأن الشرط والجزاء لا يصح في الماضي، ألا ترى أنك لو قلت: إن قُمتَ غداً قُمتُ أمسِ، كنت مخطئاً.
قال أبو البركات بن الأنباري: وهذا الوجه أوجه الوجهين.
ثالثاً: قوله تعالى: { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } هنا شرطان، والثاني في معنى الحال، والمعنى: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تنكحها، وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ، متقدّم في الوقوع ما لم تدلّ قرينة على الترتيب، أفاده أبو حيان.
رابعاً: قوله تعالى: { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } كلُّهُنَّ: مرفوع لأنه توكيد لنون النسوة في (يرضين) وليس توكيداً للضمير في (آتيتهنّ) ومعنى الآية: ويرضين كلّهنّ بما آتيتهن.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل يجوز النكاح بلفظ الإجارة أو الهبة؟
لا خلاف بين الفقهاء على أن عقد النكاح ينعقد باللفظ الصريح. وهو لفظ (النكاح أو الزواج) وبكل لفظ مشتق من هذه الصيغة، إذا لم يقصد به الوعد لقوله تعالى:
{ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [النساء: 25] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" . فصيغة النكاح والتزويج وردت في الكتاب والسنة. وهي من الصيغ الصريحة في النكاح.
وقد اتفق الفقهاء أيضاً على أنّ ألفاظ (الإباحة، والإحلال، والإعارة، والرهن والتمتع) لا يجوز بها عقد النكاح. ومثلها لفظ (الإجارة) فلا يجوز به عقد النكاح عند جمهور الفقهاء.
وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله تعالى: { ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } وحجته أن الله عز وجل سمّى المهر أجراً. والأجر يجب بعقد يتحقق بلفظ الإجارة، فيصح به النكاح.
الرد على الكرخي:
والجواب: أنّ معنى (الإجارة) يتنافى مع عقد النكاح. إذ النكاح مبني على التأبيد. والتوقيتُ يبطله. وعقد الإجارة مبنيٌ على التوقيت. حتى لو أطلق كان مؤقتاً ويتجدّد ساعة فساعة. فكيف يصح جعل ما هو موضوع على التوقيت دالاً على ما يبطله التوقيت؟
ومن جهة ثانية فإن الإجارة عقد على المنافع بعوض، والمهر ليس مقابل العوض. بل هو عطية أوجبها الله تعالى إظهاراً لخطر المحل. ولذلك يصحّ النكاح مع عدم ذكر المهر. ويجب مهر المثل بالدخول. ولا يصح النكاح بلفظ الإجازة حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل. ولهذا لم يوافق أحد من فقهاء الحنفية الكرخيَّ فيما ذهب إليه.
أما النكاح بلفظ الهبة فقد أجازه الحنفية. ومنعه جمهور الفقهاء.
أدلة الحنفية:
استدل الحنفية على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بما يلي:
أ - قوله تعالى: { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } ووجه الاستدلال أنّ الله عز وجل سمّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً فقال: (أن يستنكحها) فدلّ على جواز النكاح بلفظ الهبة، وإذا جاز هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فقد جاز لنا أيضاً لأننا أمرنا باتباعه والإقتداء به.
ب - وقالوا أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأمتَّه في عقد النكاح بلفظ (الهبة) سواء. وخصوصيتُه التي أشارت إليها الآية الكريمة { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } إنما هي في جواز النكاح بدون مهر بدليل قوله تعالى في آخر الآية { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وذلك يشير إلى أنّ الخصوصية دفعت حرجاً، والحرجُ إنما يكون في إلزام المهر؛ لأنه يلزمه مشقة السعي في تحصيل المال، وهو عليه السلام مشغول بشؤون الرسالة، وليس ثمة حرج أن يكون العقد بلفظ النكاح أو التزويج فتكون الخصوصية له عليه السلام في النكاح بدون مهر.
جـ - وقالوا: مما يؤيد هذا ما روي عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (ألا تستحيي أن تعرض نفسها بغير صداق)!! فلما نزل قوله تعالى: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ... } [إلى قوله] { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْك } قالت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد تقدّم الحديث.
د - واستدلوا بحديث سهل بن سعد
"أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: جئت لأهب نفسي لك.. وفيه (فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله: إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجْنيها، وذكر الحديث إلى قوله: إذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن" .
ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك. والهبة من ألفاظ التمليك. فوجب أن يجوز بها عقد النكاح. فكلُّ ما كان من ألفاظ (الإباحة) لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة، وكلُّ ما كان من ألفاظ (التمليك) ينعقد به عقد النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات.
حجة الجمهور:
واستدل الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) على عدم جواز النكاح بلفظ الهبة بما يأتي:
أ - أنّ الله تعالى خصّ رسوله بهذه الخصوصية، وهي جواز النكاح بلفظ الهبة بدون مهر فقال جل ثناؤه: { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
فقوله تعالى: { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } وقوله { خَالِصَةً لَّكَ } دليل على أنّ إحلال المرأة عن طريق الهبة إنما كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فالخصوصية له عليه السلام كانت بالهبة (لفظاً ومعنى) لأنّ اللفظ تابع للمعنى.
ب - وقالوا: ما كان من خصوصياته عليه السلام، فلا يجوز أن يشاركه فيها أحد. والآية دلت على أن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أي أن النكاح بدون مهر، وبلفظ الهبة معاً، من خصائصه عليه السلام، فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟
جـ - وأما استدلال الحنفية بحديث (سهل بن سعد) أن النبي عليه السلام زوّج الصحابي بلفظ التمليك بقوله:
"اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن" فليس فيه ما يدل لهم، فقد جاء في بعض الروايات "اذهب فقد زوّجتُكها" وليس كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح. فلفظ الإجارة يدل على التمليك ومع ذلك لا ينعقد به النكاح باتفاق.
الترجيح: أقول: أدلة الحنفية كما بسطها الإمام (الجصاص) وإن كانت قوّية، إلاّ أنّ النصّ ورد بالخصوصية للرسول عليه السلام في (نكاح الهبة) والظاهر أنّ المراد منه (اللفظ والمعنى)، وحمله على المعنى دون اللفظ يحتاج إلى دليل. وصيَغُ النكاح لا يجري فيها القياس، فما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح كما قال الإمام مالكرحمه الله : إنّ الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت هبة نكاح، والله أعلم.
الحكم الثاني: هل الهجرة شرط في النكاح؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنّ من لم تهاجر معه من النساء لا يحلّ له نكاحها لقوله تعالى: { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } الآية وإلى هذا الظاهر ذهب بعض العلماء، قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحلّ له نكاحها، قالت أم هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ... } إلى قولك { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت: فلم أكن لأحلّ له، لأني لم أهاجر معه، كنتُ من الطّلقاء.
وجمهور المفسرين على أن الهجرة ليست بقيد ولا شرط، وإنما هي لبيان الأفضل. كما في قوله تعالى: { ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } فالآية ذكرت الأصناف التي يباح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج منها، وبيّن ما هو أفضل له وأكمل، فكما أنّ ذكر (الأجور) ليس للقيد وإنما هو لبيان الأفضل فكذا هنا.
قال أبو حيّان: (والتخصيص باللاتي هاجرن معك، لأنّ من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات، وقيل: شرط الهجرة في التحليل منسوخ).
وحكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق.
والثاني: أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين أن تقييد القريبات بكونهنّ مهاجرات لبيان الأكمل والأفضل.
الحكم الثالث: هل كان عند النبي امرأة موهوبة؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهنّ، منهنّ (أم شريك) و(خولة بنت حكيم) و(ليلى بنت الخطيم) ولكن لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ أحد، وقيل (ميمونة بنت الحارث) و(زينب بنت خزيمة) كذلك من الواهبات أنفسهنّ والصحيح هو الأول.
قال أبو بكر ابن العربي: (وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة).
قال ابن كثير: "اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما قال البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ } قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك".
الحكم الرابع: هل كان القسم واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يرى بعض العلماء أن القسم كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقسم بينهن بالعدل ويقول:
"اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يريد بقوله (ما لا أملك) ميل القلب نحو بعض نسائه كعائشة رضي الله عنها.
واستدلوا بأنّ القسم كان واجباً عليه بأنه عليه السلام كان يستأذن بعض نسائه فيقول: أتأذنّ لي أن أبيت عند فلانة، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة.
وذهب أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاشرة من شاء من نسائه دون أن يكون القسم عليه واجباً، ومع ذلك فقد كان يعدل بينهنّ ويسوّي في القسمة.
قال الجصاص: "وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان مخيراً في القسم لمن يشاء، وترك من شاء منهن".
وقال ابن كثير: "وذهب طائفة من العلماء من الشافعية وغيرهم، إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وقال البخاري عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذننا في يوم المرأة منا، بعد أن نزلت هذه الآية { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول: إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً". والصحيح أن القسم لم يكن واجباً عليه وهو اختيار الجمهور.
شبهة والردُّ عليها
لقد درج أعداء الإسلام منذ القديم، على التشكيك في نبي الإسلام، والطعن في رسالته والنيل من كرامته، ينتحلون الأكاذيب والأباطيل، ليشككوا المؤمنين في دينهم، ويبعدوا الناس عن الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، ولا عجب أن نسمع مثل هذا البهتان والافتراء والتضليل في حق الأنبياء والمرسلين، فتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وصدق الله حيث يقول:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [الفرقان: 31] وقبل أن نتحدث عن "أمهات المؤمنين الطاهرات"، وحكمة الزواج بهن نحب أن نردّ على شبهة سقيمة، طالما أثارها كثير من الأعداء، من الصليبيين، الحاقدين، والغربيّين المتعصبين.
ردّدوها كثيراً ليفسدوا بها العقائد، ويطمسوا بها الحقائق. ولينالوا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه.
إنهم يقولون: "لقد كان محمد رجلاً شهوانياً، يسير وراء شهواته وملذاته، ويمشي مع هواه، لم يكتف بزوجةٍ واحدة أو بأربع، كما أوجب على أتباعه، بل عدّد الزوجات فتزوّج عشر نسوةٍ أو يزيد، سيراً مع الشهوة، وميلاً مع الهوى!
كما يقولون أيضاً: فرقٌ كبير وعظيم، بين "عيسى" وبين "محمد"، فرقٌ بين من يغالب هواه، ويجاهد نفسه كعيسى بن مريم، وبين من يسير مع هواه، ويجري وراء شهواته كمحمد
{ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [الكهف: 5].
حقاً إنهم لحاقدون كاذبون، فما كان "محمد" عليه الصلاة والسلام، رجلاً شهوانياً، إنما كان نبياً إنسانياً، تزوّج كما يتزوّج البشر، ليكون قدوة لهم في سلوك الطريق السويّ، وليس هو إلٰهاً، ولا ابن إلٰه - كما يعتقد النصارى في نبيّهم - إنما هو بشر مثلهم، فضّله الله عليهم بالوحي، والرسالة
{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ... } [الكهف: 110].
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه بدعاً من الرسل، حتى يخالف سنتهم، أو ينقض طريقتهم، فالرسل الكرام قد حكى القرآن الكريم عنهم بقول الله جلّ وعلا:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً... } [الرعد: 38].
فعلام إذاً يثيرون هذه الزوابع الهوج في حقّ خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام؟
ولكن كما يقول القائل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَد وينكر الفم طعم الماء من سقم

وصدق الله حيث يقول: { { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46].
"ردُّ الشبهة"
هناك نقطتان جوهريتان، تدفعان الشبهة عن النبي الكريم، وتلقمان الحجر لكل مفتر أثيم، يجب ألاّ نغفل عنهما، وأن نضعهما نَصْبَ أعيننا حين نتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن حكمة تعدّد زوجاته الطاهرات، رضوان الله عليهن أجمعين.
هاتان النقطتان هما:
أولاً: لم يعدّد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم زوجاته إلا بعد بلوغه سنَّ الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين.
ثانياً: جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل) ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فهي بكر، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي في حالة الصبا والبكارة.
ومن هاتين النقطتين ندرك - بكل بساطة - تفاهة هذه التهمة، وبطلان ذلك الادعاء، الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون.
فلو كان المراد من الزواج الجريَ وراء الشهوة، أو السيرَ مع الهوى، أو مجردَ الاستمتاع بالنساء، لتزوّج في سنّ (الشباب) لا في سنّ (الشيخوخة) ولتزوج (الأبكار الشابات)، لا (الأرامل المسنّات)، وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة: "هل تزوجت؟ قال: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً، فقال له صلوات الله عليه: فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك"؟
فالرسول الكريم أشار عليه بتزوج البكر، وهو عليه السلام يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة، فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار. ويتزوج في سن الشيخوخة، ويترك سنّ الصّبا، إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟!
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهجهم وأرواحهم، ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن شاء من الفتيات الأبكار الجميلات، فلماذا لم يعدّد الزوجات في مقتبل العمر، وريعان الشباب، ولماذا ترك الزواج بالأبكار، وتزوّج الثيبات؟
إنّ هذا - بلا شك - يدفع كل تقوّل وافتراء، ويدحض كل شبهة وبهتان. ويردّ على كل أفّاك أثيم، يريد أن ينال من قدسية الرسول، أو يشوّه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد (الهوى) أو (الشهوة) وإنما كان لحكم جليلة، وغايات نبيلة، وأهداف سامية، سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها، إذا ما تركوا التعصب الأعمى، وحكّموا منطق العقل والوجدان. وسوف يجدون في هذا الزواج (المثل الأعلى) في الإنسان الفاضل الكريم، والرسول النبي الرحيم، الذي يضحّي براحته في سبيل مصلحة غيره، وفي سبيل مصلحة الدعوة والإسلام.
حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحكمة من "تعدّد زوجات الرسول" كثيرة ومتشعبة، ويمكننا أن نجملها فيما يلي.
أولاً: الحكمة التعليمية.
ثانياً: الحكمة التشريعية.
ثالثاً: الحكمة الاجتماعية.
رابعاً: الحكمة السياسة.
ولنتحدث باختصار عن كلٍ من هذه الحِكَم الأربع، ثم نعقبها بالحديث عن أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة الزواج بكل واحدة منهن استقلالاً فنقول ومن الله نستمد العون.
أولاً: الحكمة التعليمية:
لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم هي تخريج بضع معلمات للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية، فالنساء نصيف المجتمع، وقد فُرِضَ عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال.
وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن، كأحكام الحيض، والنفاس، والجنابة، والأمور الزوجية، وغيرها من الأحكام، وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل.
كما كان من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم الحياء الكامل، وكان - كما تروي كتب السنّة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، فما كان عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يجيب عن كل سؤالٍ يعرض عليه من جهة النساء بالصراحة الكاملة، بل كان يكنّي في بعض الأحيان، ولربما لم تفهم المرأة عن طريق (الكناية) مراده عليه السلام.
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فعلّمها صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل، ثمّ قال لها: خذي فرصة ممسّكةً (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهّري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهّري بها، قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها: سبحان الله تطهّري بها!.
قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه.
فكان صلوات الله عليه يستحيي من مثل هذا التصريح، وهكذا كان القليل أيضاً من النساء من تستطيع أن تتغلّب على نفسها، وعلى حيائها، فتجاهر النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عمّا يقع لها.
نأخذ مثلاً لذلك حديث (أم سلمة) المرويّ في "الصحيحين" وفيه تقول: (جاءت أم سُلَيْم (زوج أبي طلحة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غُسْل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء.
فقالت أم سلمة: لقد فضحتِ النساء، ويحك أوتحتلم المرأة؟ فأجابها النبي الكريم بقوله: إذاً فبم يشبهها الولد؟).
مراده عليه السلام أن الجنين يتولد من ماء الرجل، وماءِ المرأة، ولهذا يأتي له شبه بأمه، وهذا كما قال الله تعالى:
{ { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان: 2].
قال ابن كثيررحمه الله : "أمشاج: أي أخلاط. والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه في بعض، قال ابن عباس: يعني ماءَ الرجل، وماء المرأة، إذا اجتمعا واختلطا...".
وهكذا مِثْلُ هذه الأسئلة المحرجة، كان يتولى الجواب عنها فيما بعد زوجاتُه الطاهرات. ولهذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".
وكانت المرأة منهن تأتي إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام، فكان نساء الرسول خيرَ معلّمات وموجهات لهن، وعن طريقهن تفقّه النساء في دين الله.
ثمّ إنه من المعلوم أنّ السنّة المطهّرة ليست قاصرة على قول النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي تشمل قوله. وفعله، وتقريره، وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخبارَه وأفعالَه عليه السلام في المنزل غيرُ هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكنّ أمهات للمؤمنين، وزوجاتٍ لرسوله الكريم في الدنيا والآخرة؟!
لا شك أن لزوجاته الطاهرات رضوان الله عليهن أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره، وأفعاله المنزلية عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ولقد أصبح من هؤلاء الزوجات معلّمات ومحدثات نقلن هديه عليه السلام. واشتهرن بقوة الحفظ والنبوغ والذكاء.
ثانياً: الحكمة التشريعية.
ونتحدث الآن عن (الحكمة التشريعية) التي هي جزء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة، وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة، ونضرب لذلك مثلاً (بدعة التبني) التي كان يفعلها العرب قبل الإسلام، فقد كانت ديناً متوارثاً عندهم، يتبنّى أحدهم ولداً ليس من صلبه، ويجعله في حكم الولد الصلبي، ويتخذه ابناً حقيقياً له حكم الأبناء من النسب، في جميع الأحوال: في الميراث، والطلاق، والزواج، ومحرمات المصاهرة، ومحرمات النكاح، إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان ديناً تقليدياً متبعاً في الجاهلية.
كان الواحد منهم يتبنَّى ولد غيره فيقول له: "أنت ابني، أرثك وترثني" وما كان الإسلام ليقرّهم على باطل، ولا ليتركهم يتخبّطون في ظلمات الجهالة، فمهّد لذلك بأن ألهم رسوله عليه السلام أن يتبنّى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة النبوية - فتبنّى عليه السلام (زيد بن حارثة) على عادة العرب قبل الإسلام.
وفي سبب تبنّيه قصة من أروع القصص، وحكمة من أروع الحِكَم ذكرها المفسّرون وأهل السير، لا يمكننا الآن ذكرُها لعدم اتساع المجال: وهكذا تبنَّى النبي الكريم (زيد بن حارثة) وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم (زيد بن محمد).
روى البخاري ومسلم: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن
{ { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل".
وقد زوّجه عليه السلام بابنة عمته (زينب بنت جحش الأسدية) وقد عاشت معه مدةً من الزمن، ولكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما، فكانت تغلظ له القول، وترى أنها أشرفُ منه، لأنه كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول، وهي ذات حسبٍ ونسب.
ولحكمة: يريدها الله تعالى طلّق زيد زينب، فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل (بدعة التبني) ويقيم أسس الإسلام، ويأتي على الجاهلية من قواعدها. ولكنه عليه السلام كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجّار، أن يتكلموا فيه ويقولوا: تزوّج محمد امرأة ابنه، فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله عليه السلام، وفي قوله جلّ وعلا:
{ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [الأحزاب: 37].
وهكذا انتهى حكم التبني، وبطلت تلك العادات التي كانت متبعة في الجاهلية. وكانت ديناً تقليدياً لا محيد عنه، ونزل قوله تعالى مؤكداً هذا التشريع الإلٰهي الجديد:
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [الأحزاب: 40].
وقد كان هذا الزواج بأمرٍ من الله تعالى، ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول بعض الأفّاكين المرجفين من أعداء الله، وكان لغرضٍ نبيل، وغاية شريفة هي إبطال عادات الجاهلية، وقد صرّح الله عز وجل بغرض هذا الزواج بقوله:
{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً... } [الأحزاب: 37].
وقد تولى الله عزّ وجل تزويج نبيه الكريم بزينب، امرأة ولده من التبني ولهذا كانت تفخر على نساء النبي بهذا الزواج الذي قضى به رب العزّة من فوق سبع سماواته.
روى البخاري: بسنده أن (زينب) رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكُنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سمٰوات.
وهكذا كان هذا الزواج للتشريع، وكان بأمر الحكيم العليم، فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله:
{ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
ثالثاً: الحكمة الاجتماعية:
أما الحكمة الثالثة فهي (الحكمة الاجتماعية) وهذه تظهر بوضوح في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بابنة الصّديق الأكبر (أبي بكر) رضي الله عنه وزيره الأول، ثمّ بابنة وزيره الثاني الفاروق (عمر) رضي الله عنه وأرضاه، ثمّ باتصاله عليه السلام بقريش اتصال مصاهرة ونسب. وتزوجه العديد منهن، ممّا ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق، وجعل القلوب تلتف حوله، وتلتقي حول دعوته في إيمان، وإكبار، وإجلال.
لقد تزوّج النبي صلوات الله عليه بالسيدة (عائشة) بنتِ أحبّ الناس إليه، وأعظمهم قدراً لديه، ألا وهو أبو بكر الصدّيق، الذي كان أسبق الناس إلى الإسلام، وقدّم نفسه وروحه وماله، في سبيل نصرة دين الله، والذود عن رسوله، وتحمّل ضروب الأذى في سبيل الإسلام، حتى قال عليه السلام - كما في الترمذي - مُشيداً بفضل أبي بكر:
"ما لأحد عندنا يدٌ إلاّ وقد كافيناه بها، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يداً يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر. وما عرضت الإسلام على أحدٍ إلاّ كانت له كبوة (أي تردد وتلكؤ) إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم، ولو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإنّ صاحبكم خليل الله تعالى" .
فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم مكافأة لأبي بكر في الدنيا، أعظم من أن يُقرَّ عينه بهذا الزواج بابنته، ويصبح بينهما (مصاهرة) وقرابة، تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق.
كما تزوج صلوات الله عليه بالسيدة (حفصة بنت عمر) فكان ذلك قرّة عين لأبيها عمر على إسلامه، وصدقه، وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين، فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة، خيْرَ مكافأة له على ما قدّم في سبيل الإسلام، وقد ساوى صلى الله عليه وسلم بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة، فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرفٍ لهما، بل أعظم مكافأة ومنّة، ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف، فما أجلّ سياسته؟ وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين!.
كما يقابُل ذلكَ اكرامَه لعثمان وعلي رضي الله عنهما بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربعة هم أعظم أصحابه، وخلفاؤه من بعده في نشر ملته، وإقامة دعوته، فما أجلّها من حكمة، وما أكرمها من نظرة؟
رابعاً: الحكمة السياسية:
لقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ببعض النسوة، من أجل تأليف القلوب عليه، وجمع القبائل حوله، فمن المعلوم أنّ الإنسان إذا تزوج من قبيلة، أو عشيرة، يصبح بينه وبينهم قرابة و(مصاهرة) وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضّح لنا الحكمة، التي هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج.
أولاً: تزوّج صلوات الله عليه بالسيدة (جويرية بنت الحارث) سيّد بني المصطلق، وكانت قد أُسِرت مع قومها وعشيرتها، ثمّ بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه بشيء من المال، فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها فقبلت ذلك فتزوجها، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أيدينا؟ (أي أنهم في الأسر) فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم، فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو، وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعاً، ودخلوا في دين الله، وأصبحوا من المؤمنين.
فكان زواجه صلى الله عليه وسلم بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها، لأنه كان سبباً لإسلامهم وعتقهم، وكانت (جويرية) أيمن امرأة على قومها.
أخرج البخاري في "صحيحه": عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
" أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءَ بني المصطلق، فأخرج الخُمُس منه ثمّ قسمه بين الناس، فأعطى الفرس سهمين، والرجل سهماً، فوقعت (جويرية بنت الحارث) في سهم ثابت بن قيس، فجاءت إلى الرسول فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيّدِ قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ، وقد كاتبني ثابت على تسع أواق، فأعنّي على فَكَاكي، فقال عليه السلام: أو خير من ذلك؟ فقالت: ما هو؟ فقال: أوْدي عنك كتابَتَك وأتزوجُك. فقالت: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله قد فعلت" .
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله يُسْترقّون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقُهم مائةً بيت، بتزوجه عليه السلام بنتَ سيدِ قومه.
ثانياً: - وكذلك تزوجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة (صفية بنت حُيّي بن أخطب) التي أسرت بعد قتل زوجها في (غزوة خيبر) ووقعت في سهم بعض المسلمين فقال أهل الرأي والمشورة: هذه سيّدة بني قريظة، لا تصلح إلاّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا الأمر على الرسول الكريم، فدعاها وخيّرها بين أمرين:
أ - إمّا أن يعتقها ويتزوجها عليه السلام فتكون زوجة له.
ب - وأمّا أن يُطْلِقَ سراحها فتلحق بأهلها.
فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له، وذلك لما رأته من جلالة قدره، وعظمته وحسن معاملته، وقد أسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس، روي أن (صفية) رضي الله عنها لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: لم يزل أبوك من أشدّ اليهود لي عداوة حتى قتله الله، فقالت يا رسول الله: إن الله يقول في كتابه:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164].
فقال لها الرسول الكريم: اختاري، فإن اخترَت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، فقالت يا رسول الله: لقد هويتُ الإسلام، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني إلى رَحْلك، ومالي في اليهودية أرَب، ومالي فيها والد ولا أخ، وخيّرتني الكفرَ والإسلامَ، فاللَّهُ ورسولُه أحبّ إليّ من العَتْق، وأن أرجع إلى قومي، فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه.
ثالثاً: وكذلك تزوجه عليه الصلاة والسلام بالسيدة أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) الذي كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك، وألدّ الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلمت ابنته في مكة، ثمّ هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فراراَ بدينها، وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة، لا معين لها ولا أنيس، فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى (النجاشي) ملكِ الحبشة ليزوجه أيّاها، فأبلغها النجاشي ذلك فسُرّت سروراً لا يعرف مقداره إلا الله سبحانه، لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردَّة، أو عذبّوها عذاباً شديداً، وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسه، ولما عادت إلى المدينة المنورة تزوجها النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ولما بلغ (أبا سفيان) الخبرُ أقرَ ذلك الزواج وقال: "هو الفحل لا يُقدع أنفُه" فافتخر بالرسول ولم ينكر كفاءته له، إلى أن هداه الله تعالى للإسلام.
ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه عليه السلام بابنة أبي سفيان فقد كان هذا الزواج سبباً لتخفيف الأذى عنه وعن أصحابه المسلمين، سيّما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة، مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألدّ بني أمية خصومة لرسول الله، ومن أشدّهم عداء له وللمسلمين، فكان تزوجه بابنته سبباً لتأليف قلبه وقلب قومه وعشيرته، كما أنه صلى الله عليه وسلم اختارها لنفسه تكريماً لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها، فما أكرمها من سياسة، وما أجلها من حكمة؟؟
أمهات المؤمنين الطاهرات
بعد أن تحدثنا عن حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم نتحدث الآن عن (أمهات المؤمنين) الطاهرات رضوان الله تعالى عليهن. فقد اختارهنّ الله لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأكرمهن بهذا الشرف العظيم، شرف الانتساب إلى سيِّد المرسلين، واختارهن من صفوة النساء، وجعلهنَّ أمهات المؤمنين، في وجوب الاحترام والتعظيم، وفي حرمة الزواج بهن حتى بعد وفاته عليه السلام تكريماً لرسوله فقال وهو أصدق القائلين:
{ { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ... } [الأحزاب: 6].
وقال تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } [الأحزاب: 53].
قال العلامة القرطبي: في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) ما نصه: "شرّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين، أي في وجوب التعظيم، والمبرّة، والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، فكان ذلك تكريماً لرسوله، وتشريفاً لهن".
أسماء أمهات المؤمنين
وأمهات المؤمنين اللواتي تزوجهن الرسول الكريم هنَّ كالآتي:
أولاً: السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
ثانياً: السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها.
ثالثاً: السيدة عائشة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنها.
رابعاً: السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها.
خامساً: السيدة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها.
سادساً: السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
سابعاً: السيدة أم سلمة (هند بنت أبي أمية المخزومية) رضي الله عنها.
ثامناً: السيدة أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) رضي الله عنها.
تاسعاً: السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها.
عاشراً: السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها.
وأخيراً: السيدة صفية بنت حُيّي بن أخطب رضي الله عنها.
1 - السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
هي أول أزواجه عليه السلام. تزوجها الرسول الكريم قبل البعثة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيِّب (أرملة) بنت أربعين سنة، وقد كانت عند (أبي هالة) ابن زرارة أولاً، ثمّ خلف عليها بعد أبي هالة (عتيق بن عائذ) ثم خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في "الإصابة".
وقد اختارها صلوات الله عليه لسداد رأيها، ووفرة ذكائها، وكان زواجه بها زواجاً حكيماً موفقاً، لأنه كان زواج العقل للعقل، ولم يكن فارق السن بينهما بالأمر الذي يقف عقبة في طريق الزواج، لأنه لم يكن الغرض منه قضاءَ (الوطر والشهوة) وإنما كان هدفاً إنسانياً سامياً، فمحمد رسول الله قد هيأه الله لحمل الرسالة، وتحمل أعباء الدعوة، وقد يسّر الله تعالى له هذه المرأة التقيّة النقيّة، العاقلة الذكية، لتعينه على المضي في تبليغ الدعوة، ونشر الرسالة، وهي أول من آمن به من النساء.
ومما يشهد لقوة عقلها، وسداد رأيها، أن الرسول عليه السلام حين جاءه جبريل وهو في غار حراء رجع إلى زوجه يرجف فؤاده، فدخل عليها وهو يقول:
"زَمِّلوني زَمِّلوني" ، حتى ذهب عنه الروع، فحدّث خديجة بالخبر وقال لها: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له: (أبشر، كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). والحديث في "الصحيحين".
قضى الرسول مع خديجة زهرة شبابه، فلم يتزوج عليها، ولا أحبّ أحداً مثل حبه لها، وكانت السيدة عائشة تغار منها مع أنها لم تجتمع معها ولم ترها، حتى تجرأت مرة عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم لها فقالت:
"وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان، قد أبدلك الله خيراً منها؟ تعني نفسها" فغضب صلى الله عليه وسلم من هذه الكلمة وقال لها:
" لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء" قالت: "فلم اذكرها بسوءٍ بعده أبداً".
وروى الشيخان عنها أنها قالت: "ما غرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة، وما رأيتها قطَ، ولكن النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول:
"إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد" .
عاشت مع الرسول خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة قبل البعثة، وعشراً بعدها، ولم يتزوج الرسول الكريم امرأة عليها، ورُزِق منها جميع أولاده ما عدا إبراهيم. وحين انتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الخمسين من العمر، وليس عنده سواها، فلم يعدّد زوجاته إلا بعد وفاتها، لبعض تلك الحكم التي ذكرناها، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
2 - السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد وفاة خديجة. وهي أرملة (السكران بن عمرو الأنصاري)، والحكمة في اختيارها مع أنها أكبر سناً من رسول الله، أنها كانت من المؤمنات المهاجرات، توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، فأصبحت فريدة وحيدة، لا معيل لها ولا معين، ولو عادت إلى أهلها - بعد وفاة زوجها - لأكرهوها على الشرك، أو عذّبوها عذاباً نكراً ليفتنوها عن الإسلام، فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها فتزوجها، وهذا هو منتهى الإحسان والتكريم لها على صدق إيمانها وإخلاصها لله ولرسوله.
ولو كان غرض الرسول الشهوة - كما زعم المستشرقون الأفاكون - لاستعاض عنها - وهي الأرملة المسنَّة التي بلغت من العمر الخامسة والخمسين - بالنواهد الأبكار، ولكنه عليه السلام كان المثل الأعلى في الشهامة، والنجدة، والمروءة، ولم يكن غرضه إلا حمايتها ورعايتها، لتبقى تحت كفالته عليه أفضل الصلاة والتسليم.
3 - السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وكانت بكراً، وهي البكر الوحيدة من بين نسائه الطاهرات فلم يتزوج بكراً غيرها، وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن، بل كانت أعلم من أكثر الرجال، فقد كان كثير من كبار علماء الصحابة، يسألونها عن بعض الأحكام التي تشكل عليهم فتحلُّها لهم.
روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قطُّ، فسألنا عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علماً).
وقال أبو الضحى عن مسروق: (رأيت مشيخة أصحاب رسول الله يسألونها عن الفرائض).
وقال عروة بن الزبير: (ما رأيتُ امرأة أعلم بطب، ولا فقه، ولا شعر من عائشة).
ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير، وعقلها الكبير، فلم يَرْو في الصحيح أحد من الرجال أكثر مما روي عنها إلا شخصان هما: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وكان عليه السلام يحب عائشة أكثر من بقية نسائه وكان يعدل بينهن في القسمة ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك.
ولما نزلت آية التخيير بدأ بعائشة فقال لها: إني ذاكر لك أمراً فلا تَعْجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه فقرأ عليها:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [الأحزاب: 28] الآية، فقالت: أوفي هذا استأمر أبوي!! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ولقد كانت مصاهرة الرسول للصّديق أبي بكر، أعظم منّة ومكافأة له في هذه الحياة الدنيا، كما كان خير وسيلة لنشر سنته المطهّرة، وفضائله الزوجية، وأحكام شريعته، ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء كما بينا عند ذكر الحكمة التعليمية.
4 - السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي أرملة، وكان زوجها (خنيس بن حذافَة) الأنصاري قد استشهد في غزوة بدر، بعد أن أبلى بلاءً حسناً، فقد كان من الشجعان الأبطال، الذين سجّل لهم التاريخ أنصع الصفحات في البطولة والرجولة، والجهاد.
وقد عرضها أبوها (عمر) رضي الله عنه على عثمان بعد وفاة زوجته (رقية) بنت الرسول، ثمّ تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك أعظم إكرام ومنّة وإحسان لأبيها عمر بن الخطاب.
أخرج الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنّ عمر حين تأيمت حفصة من (خنيس بن حذافة) - وكان شهد بدراً وتوفي بالمدينة - لقي عثمان فقال: إن شئت أنكحتك حفصة؟ قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي لا أتزوج، قال عمر: فقلت لأبي بكر إن شئتَ أنكحتك حفصة، فصمتَ، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه.
فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئاً؟ قلت: نعم، قال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلاّ أني علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها. فلم أكن لأفشي سرّه، ولو تركها لقبلتها".
أقول: هذه لعَمْرُ الحق هي الشهامة الحقة، بل هذه هي الرجولة الصادقة، تظهر في فعل الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه فهو يريد أن يصون عرضه، فلا يرى في نفسه غضاضة أن يعرض ابنته على الكفء الصالح، لأنّ الزواج خير وسيلة للمجتمع الفاضل، فأين نحن اليوم من جهل المسلمين بأحكام الإسلام وجماله الناصع؟ يتركون بناتهم عوانس حتى يأتي الخاطب، ذو المال الكثير، والثراء الوفير؟!
5 - السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد حفصة بنت عمر، وهي أرملة البطل المقدام شهيد الإسلام (عبيدة بن الحارث) بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر، وقد كانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى، وتضميد جراحهم، لم يشغلها استشهاد زوجها عن القيام بواجبها، حتى كتب الله النصر للمؤمنين في أول معركة خاضوها مع المشركين. ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بصبرها وثباتها وجهادها وأنه لم يعد هناك من يعولها خطبها لنفسه وآواها، وجبر خاطرها بعد أن انقطع عنها الناصر والمعين.
يقول فضيلة الشيخ (محمد محمود الصواف) في رسالته القيمة "زوجات النبي الطاهرات" بعد أن ذكر قصة استشهاد زوجها وما فيها من سموّ وعظمة: (وكانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعمّر عند النبي الكريم سوى عامين، ثم توفاها الله إليه راضية مرضية. فما رأي الخراصين بهذا الزواج الشريف، وغايته النبيلة؟ وهل يجدون فيه شيئاً مما يأفك الأفّاكون؟
أيجدون فيه أثراً للهوى والشهوة؟ أم هو النبل، والعفاف، والعظمة والرحمة، والفضل، والإحسان، من رسول الإنسانية الأكبر، الذي جاء رحمة للعالمين.
فليتق الله المستشرقون المغرضون، وليؤدوا أمانة العلم ولا يخونوها في سبيل غايات خبيثة استشرقوا ودرسوا العلوم الإسلامية خاصة للدس، والكيد، والنيل من سيد الأنسانية محمد عليه السلام).
6 - السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وهي ثيب وهي ابنة عمته، وكان قد تزوجها (زيد بن حارثة) ثمّ طلّقها فتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمة لا تعلوها حكمة في زواج أحدٍ من أزواجه، وهي إبطال (بدعة التبني) كما مرّ معنا عند ذكر الحكمة التشريعية.
وهنا يحلو لبعض المغرضين، الحاقدين على الإسلام وعلى نبي الإسلام، من المستشرقين الماكرين، وأذنابهم المارقين، أن يتخذوا من قصة تزوج الرسول الكريم بزينب منفذاً للطعن في النبي الطاهر الزكيّ، ويلِّفقوا الشبه والأباطيل، بسبب بعض الروايات الإسرائيلية، التي ذكرت في بعض كتب التفسير.
فقد زعموا - وبئسما زعموا - أن النبي عليه الصلاة والسلام مرّ ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب فأحبّها ووقعت في قلبه، فقال: سبحان مقلّب القلوب، فسمعت زينب ذلك فلما جاء زوجها أخبرته بما سمعت من الرسول، فعلم أنها وقعت في نفسه، فأتى الرسول يريد طلاقها فقال له: أمْسك عليك أهلك وفي قلبه غير ذلك. فطلّقها زيد من أجل أن يتزوج بها الرسول.
يقول ابن العربيرحمه الله في تفسيره (أحكام القرآن) رداً على هذه الدعوى الأثيمة: فأمّا قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذٍ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، قد وهبته نفسها، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال الله له:
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه: 131] وقد تعقَّب - عليه رحمة الله - تلك الروايات الإسرائيلية وبيّن أنها كلها ساقطة الأسانيد.
إن نظرة بسيطة إلى تاريخ (زينب) وظروفها في زواج (زيد) تجعلنا نؤمن بأنّ سوء العشرة التي كانت بين زيد وزينب إنما جاءت من اختلافهما اختلافاً بيناً في الحالة الاجتماعية، فزينب شريفة، وزيد كان بالأمس عبداً وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ (العصبيَّة القبليَّة) والشرف الجاهلي، وجعل الإسلام الشرف في (الدين والتقوى) فحين عرض الرسول على (زينب) الزواج من (زيد) امتنعت واستنكفت اعتزازاً بنسبها وشرفها فنزل قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [الأحزاب: 36].
فخضعت زينب لأمر الرسول، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان من وراء ذلك الألم والضيق. ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يعرف زينب من الصغر، لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدّم إنسان امرأة لشخص وهي (بكر) حتى إذا تزوجها وصارت (ثيباً) رغب فيها؟!
حقاً إنهم قوم لا يعقلون، فهم يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون على الرسول كذباً وزوراً، وبهتاناً وضلالاً، ثم انظر إليهم وهم يقولون: إنّ الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب، فهل يعقل مثل هذا البهتان؟ وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟
{ سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16].
ثمّ إن الآية صريحة كلّ الصراحة، وواضحة كل الوضوح، في هذا الشأن، فقد ذكرت الآية الكريمة أنّ الله سيظهر ما أخفاه الرسول:
{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } [الأحزاب: 37] فماذا أظهر الله تعالى؟ هل أظهر حبّ الرسول أو عشقه لزينب؟ كلا ثم كلا، إنما الذي أظهره هو رغبته عليه السلام في تنفيذ أمر الله بالزواج بها لإبطال (حكم التبني)، ولكنه كان يخشى من ألسنة المنافقين أن يقولوا: تزوج محمد حليلة ابنه، ولهذا صرّح الباري جلّ وعلا بهذا الذي أخفاه الرسول: { { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ... } [الأحزاب: 37]. وهكذا تبطل مزاعم المفترين أمام الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، التي تدل على عصمة سيِّد المرسلين، وعلى نزاهته وطهارته مما ألصقه به الدسّاسون المغرضون.
7 - السيدة هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها
تزوج الرسول الكريم بأم سلمة وهي أرملة (عبد الله بن عبد الأسد) وكان زوجها من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكانت زوجته معه خرجت فراراً بدينها، وولدت له (سلمة) في أثناء ذلك، واستشهد زوجها في غزوة أحد، فبقيت هي وأيتامها الأربعة بلا كفيل ولا معيل، فلم ير عليه السلام عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها غير أن يتزوج بها. ولما خطبها لنفسه اعتذرت إليه، وقالت: "إني مسنّة، وإني أم أيتام، وإني شديدة الغيرة".
فأجابها عليه السلام وأرسل لها يقول: أما الأيتام فأضمهم إليّ، وأدعو الله أن يذهب عن قلبك الغيرة، ولم يعبأ بالسنّ، فتزوجها عليه السلام بعد موافقتها، وقام على تربية أيتامها، ووسعهم قلبه الكبير، حتى أصبحوا لا يشعرون بفقد الأب، إذ عوّضهم أباً أرحم من أبيهم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد اجتمع لأم المؤمنين النسب الشريف، والبيت الكريم، والسبق إلى الإسلام، على أنّ لها فضيلة أخرى هي (جودة الرأي) ويكفينا دليلاً على ذلك استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما حزَنه وأهمّه من أمر المسلمين، وما أشارت به عليه، وذلك في (صلح الحديبية) فقد تأثر المسلمون بالغ التأثر من ذلك الصلح مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط التي قدَّموها، ورأوا في ذلك هضماً لحقوقهم، مع أنهم كانوا في أوج عظمتهم، وكان من أثر هذا الاستياء، أنهم تباطئوا عن تنفيذ أمر الرسول حين أمرهم بالحلق أو التقصير لأجل العودة إلى المدينة المنورة، فلم يمتثل أمره أحد، فدخل الرسول على زوجه (أم سلمة) وقال لها هلك الناس، أمرتُهم فلم يمتثلوا فهوّنت عليه الأمر، وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق رأسه أمامهم، وجزمت بأنهم لا يتردّدون حينذاك عن الاقتداء به. لأنهم يعلمون أنه صار أمراً مبرماً لا مرد له، وكذلك كان، فما أن خرج الرسول وأمر الحلاق بحلق رأسه، حتى تسابقوا إلى الاقتداء به صلوات الله عليه فحلقوا وتحلّلوا وكان ذلك بإشارة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.
8 - السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
وفي سنة سبع من الهجرة تزوج الرسول الكريم بالسيدة (أم حبيبة) رضي الله عنها وهي أرملة (عبيد الله بن جحش) مات زوجها بأرض الحبشة، فزَّوجها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة، وقد تقدمت الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها فيما سبق.
9 - 10 - السيدة جويرية بنت الحارث والسيدة صفية بنت حيي رضي الله عنهما
وتزوج الرسول الكريم بالسيدة (جويرية بنت الحارث بن ضرار) سيَّد بني المصطلق، وهي أرملة (مُسَافع بن صفوان) الذي قتل يوم المريسيع، وترك هذه المرأة فوقعت في الأسر بيد المسلمين، وكان زوجها من ألدّ أعداء الإسلام وأكثرهم خصومة للرسول، وقد تقدم معنا الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها، كما تقدم الحديث عن (صفية بنت حُيّي بن أخطب) عند الكلام على الحكمة السياسية.
11 - السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
كان اسمها برّه فسمّاها عليه السلام (ميمونة) وهي آخر أزواجه صلوات الله عليه، وقد قالت فيها عائشة: أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم، وهي أرملة (أبي رهم بن عبد العزى) وقد ورد أن العباس رضي الله عنه هو الذي رغّبه فيها، ولا يخفى ما في زواجه بها من البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروا الرسول ونصروه.
خاتمة البحث:
وبعد:
فهذه لمحة عن أمهات المؤمنين، زوجات الرسول الطاهرات، اللواتي أكرمهن الله بصحبة رسوله، وجعلهن أمهات للمؤمنين، وخاطبهن بقوله جل وعلا:
{ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [الأحزاب: 32] وقد كان زواج الرسول بهنَّ لحكم كثيرة، راعى فيها الرسول مصلحة الدين والتشريع، وقصد تأليف القلوب، فجذب إليه كبار القبائل، وكرام العشائر.
وجميع زوجات الرسول (أرامل) ما عدا السيدة عائشة، وقد عدّد الرسول زوجاته بعد الهجرة في السنة التي بدأت فيها الحروب بين المسلمين والمشركين، وكثر فيها القتل والقتال، وهي من السنة الثانية للهجرة إلى السنة الثامنة التي تمّ فيها النصر للمسلمين، وفي كل زواج ظهر لنا الدليل الساطع على نبل الرسول، وشهامته، وسموّ غرضه، وجميل إحسانه، خلافاً لما يقوله الأفّاكون الدسّاسون فلو كان للهوى سلطان على قلب النبي لتزوج في حال الشباب، ولتزوج الأبكار، ولكنه الحقد الأسود الذي ملأ قلوب أولئك المستشرقين الغربيين فأعماها عن رؤية ضياء الحق الساطع، وصدق الله:
{ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 18].