التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
١٩
وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَالَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلأَخِ وَبَنَاتُ ٱلأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٣
وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
-النساء

تفسير آيات الأحكام

[3] المحرمات من النساء
التحليل اللفظي
{ كَرْهاً }: الكَره بفتح الكاف بمعنى الإكراه يقال: افعل هذا طوعاً أو كَرْهاً، وبضم الكاف (كُرْهاً) بمعنى المشقة قال تعالى
{ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } [الأحقاف: 15].
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد.
وقال الفراء: الكَرْهُ بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، فما أكره عليه فهو (كَرْه) بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو (كُره) بالضم.
{ تَعْضُلُوهُنَّ }: العضل في اللغة: المنع ومنه الداء العضال، وقد تقدم بيانه بالتفصيل.
{ قِنْطَاراً }: القنطار المال الكثير، وهو تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة.
{ بُهْتَاناً }: البهتانُ الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل.
{ أَفْضَىٰ }: أي وصل، وأصله من الفضاء الذي هو السعة.
قال في "اللسان": وأفضى فلان إلى فلان وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، والفضاء المكان الواسع من الأرض.
وقال الجوهري: أفضى الرجل إلى امرأته باشرها وجامعها وقال الفراء: الإفضاء الخلوة وإن لم يجامعها.
قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني.
{ مِّيثَاقاً غَلِيظاً }: أي عهداً شديداً مؤكداً، وهو عقد النكاح الذي ربط الزوجين برباط شرعي مقدس.
{ سَلَفَ }: أي مضى وانقضى، والسلفُ من تقدم من الآباء وذوي القربى.
{ فَاحِشَةً }: الفاحشة في اللغة: النهاية في القبح سميت فاحشة لأنها تناهت في القبح والشناعة.
{ وَمَقْتاً }: أصل المقت: البغضُ من مقته إذا أبغضه.
قال الراغب: المقت البغض الشديد لمن تعاطى القبح، وكان يسمى تزوجُ الرجل امرأة أبيه (نكاح المقت).
{ وَرَبَائِبُكُمُ }: جمع ربيبة وهي بنت المرأة من زوج آخر، سميت بذلك لأنها تتربى في حجر الزوج فهي مربوبة، فعيلة بمعنى (مفعولة).
قال الرازي: الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل هو الذي يقوم بتربيتها.
{ حُجُورِكُمْ }: الحَجِرّ بالفتح والكسر: الحضن وهو مكان ما يحجره الإنسان ويحوطه بين عضديه وساعديه، ويقال فلان في حَجْر فلان أي في كنفه ورعايته وفي تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أنّ كل من ربي طفلاً أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحضن.
{ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }: قال في "القاموس": "ودخل بامرأته كناية عن الجماع، وغلب استعماله في الوطء الحلال، والمرأة مدخول بها، ومنه الدخلة ليلة الزفاف".
{ وَحَلَٰئِلُ }: أي زوجات جمع حليلة سميت بذلك لأنها تحل لزوجها ويحل لها فكلٌ منهما حلال للآخر، ويقال للزوج: حليل.
{ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ }: يعني ذوات الأزواج، وأصل الإحصان في اللغة المنع، والحَصَان بالفتح المرأة العفيفة قال تعالى:
{ { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [الأنبياء: 91] وستأتي معاني الإحصان في سورة النور إن شاء الله.
{ مُّحْصِنِينَ }: أي متعففين عن الزنى.
{ مُسَٰفِحِينَ }: السفاح والمسافحة الفجور، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب، قال تعالى
{ { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [الأنعام: 145] ويقال: فلان سفّاح أي سفاك للدماء، وسمى الزنى سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء على كره منهن، ولا أن تمنعوهن من الزواج بعد تطليقكم لهن، أو تضيقوا عليهن حتى تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من ميراث أو صداق، إلاّ إذا أتين بفاحشة من الفواحش كالبذاءة باللسان، والنشوز على الزوج، والوقوع في المنكرات كالزنى وغيره فلكم حينئذٍ أن تعضلوهن حتى يفتدين أنفسهن منكم، لأن الله لا يحب الظلم أياً كان مصدره. ثم أمر تعالى بحسن الصحبة والمعاشرة للأزواج بالمعروف، فإذا كره الرجل زوجته فليصبر عليها، وليستمرّ في إحسانه إليها، فعسى أن يرزقه الله منها ولداً تقر به عينه، وعسى أن يكون في هذا الشيء المكروه الخير الكثير، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها، وكنتم قد أعطيتم المطلّقة مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه ظلماً وعدواناً؟ وكيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية، وبالاتصال الجنسي (الجماع) واستحللتم فروجهن بكلمة الله (عقد النكاح) فكيف تأخذون ما دفعتم لهن من المهور بعد هذا الميثاق؟ ثم بين تعالى ما يحرم على الرجال نكاحهن من المحارم، وهنّ (المحرمات من النساء) فبدأ بحلائل الآباء، وأبطل ما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من نكاح الولد لزوجة أبيه، لأنه أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إذ كيف يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ ثم عدّد تعالى المحرمات بالنسب وهن (الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت) والمحرمات من الرضاعة وذكر منهن (الأمهات والأخوات) والمحرمات بالمصاهرة وهن (أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الابن، والجمع بين الأختين) وأحل ما سوى ذلك من النساء كما سنوضحه بالتفصيل عند ذكر الأحكام إن شاء الله تعالى.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
في الآيات السابقة من أول سورة النساء نهى الله جل ثناؤه عن كثير من عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ونكاح اليتيمات من غير صداق، وعن الظلم الذي كانوا عليه في أمر الميراث حيث كانوا يحرمون المرأة والصغير من الميراث بحجة أن هؤلاء لا يستطيعون الذود عن العشيرة، ولا حمل السلاح إلى آخر ما هنالك من مظالم اجتماعية، وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لبيان نوع آخر من الظلم كانت تتعرض له النساء في الجاهلية وهو اعتبارهن كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر، فقد كانوا يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله، فحرّم الله ذلك وأمر بإحسان معاشرتهن وصحبتهن، ودعا إلى إنصافهن من ذلك الظلم الصارخ والعدوان المبين.
سبب النزول
أولاً: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً }.
ثانياً: وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله، وألقى عليها ثوباً، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً }.
ثالثاً: وروي أن (أبا قيس بن الأسلت) لما توفي خطب ابنه (قيس) امرأته فقالت: إنما أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه وقالت: إنما كنت أعده ولداً فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } الآية.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } بفتح الكاف، وقرأ حمزة والكسائي (كُرْهاً) بضمها.
2 - قرأ الجمهور { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } بكسر الياء، وقرأ ابن كثير وعاصم (مبيَّنة) بفتح الياء.
3 - قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر { وَأُحِلَّ لَكُمْ } بالضم وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء.
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و(كرهاً) مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير: لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ.
ثانياً: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره: ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة.
ثالثاً: قوله تعالى: { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين و(مبيناً) صفة منصوب.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: التعليل في قوله تعالى: { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء، وهذا هو السر في قوله: { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ولم يقل: وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء، فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة الثانية: كنى الله عز وجل عن الجماع بلفظ الإفضاء { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } وهي كناية لطيفة مثل (الملامسة، والمماسة، والقربان، والغشيان) وكلها كنايات عن الجماع، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس: "الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني" والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به.
اللطيفة الثالثة: قال القرطبي: "خطب عمر رضي الله عنه فقال: أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء (مهورهن) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحداً من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار".
اللطيفة الرابعة: قال صاحب "الكشاف": "الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج..."
قال الشهاب الخفاجي: بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا:

صحبةُ يوم نسبٌ قريبُوذمةٌ يعرفها اللبيبُ

اللطيفة الخامسة: قال الرازي: "مراتب القبح ثلاثة، القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات، فقوله (إنه كان فاحشة) إشارة إلى القبح العقلي، وقوله (مقتاً) إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله (وساء سبيلاً) إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح".
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟
المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية، وليس له قدر محدّد، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً }.
قال العلامة القرطبي: "في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح، وذكر قصة عمر وفيها قوله "أصابت امرأة وأخطأ عمر" وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:
"من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة" ثم قال: وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق".
وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال:
أ - أقلة ثلاثة دراهم (ربع دينار) وهو مذهب مالكرحمه الله تعالى.
ب - أقله عشرة دراهم (دينار) وهو مذهب أبي حنيفةرحمه الله تعالى.
جـ - لا حدّ لأقله ويجوز بكل شيء له قيمة وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله.
قال الحافظ: وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء.
قال العلامة القرطبي: "تعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: { بِأَمْوَٰلِكُمْ } في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح ويعضده قوله عليه السلام
"لو أن رجلاً أعطى ملء يديه طعاماً كانت به حلالاً" وأنكح سعيد بن المسيب ابنته من (عبد الله بن وَدَاعة) بدرهمين.
قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمناً لشيء أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقاً، وهذا قول جمهور أهل العلم وأهل الحديث، كلهم أجاز الصداق بقليل المال وكثيره.
حجة المالكية والأحناف: أن الشيء الحقير لا يصلح مهراً، ولا بدّ في المهر من قدر معلوم من المال، ولما كانت يد السارق لا تقطع إلاّ في دينار (على قول أبي حنيفة) وفي ربع دينار (على قول مالك) اعتبر هذا القدر في المهر قياساً على حد السرقة.
واستدل أبو حنيفة: بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صداق دون عشرة دراهم".
الترجيح: أقول ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح فقد زوّج عليه السلام أحد الصحابة على ما يحفظه من القرآن (زوجتكها بما معك من القرآن) وقال لشخص:
"التمس ولو خاتماً من حديد" ، وزوج سيد التابعين (سعيد بن المسيب) ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، والأصل في المقادير إثباتها بطريق الشرع، وليس ثمة حديث صحيح في أقل الصداق يصلح حجة كما قال الحافظ والله أعلم.
الحكم الثاني: ما المراد بالميثاق الغليظ في الآية الكريمة؟
قال الضحاك وقتادة: هو العهد الذي أخذ عليهم من إحسان العشرة إلى النساء في قوله تعالى:
{ { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [البقرة: 229].
وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالميثاق الغليظ هو (عقد النكاح) وقد دل عليه قوله عليه السلام:
"اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" .
الحكم الثالث: ما هي المحرمات التي أرشدت إليها الآية الكريمة؟
المحرمات التي يحرم الزواج بهن ثلاثة أنواع وهن كالآتي:
1 - محرمات بالنسب 2 - محرمات بالرضاع 3 - محرمات بالمصاهرة.
المحرمات من النسب:
أشارت الآية الكريمة إلى تحريم سبعة من النسب وهنّ: (الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنت الأخت) وهؤلاء يحرم الزواج بهن على التأبيد، أي أنه لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال، ويدخل في الأمهات الجدات وإن علون، كما يدخل في البنات بناتهن وإن سفلن، وكذلك الأخوات سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالات وإن علون سواء كن من جهة الأب أو الأم.
المحرمات من الرضاع:
والمحرمات من الرضاع سبع أيضاً كما هو الحال في النسب لقوله عليه الصلاة والسلام:
"يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" والآية الكريمة لم تذكر من المحرمات بالرضاع سوى (الأمهات، والأخوات) والأم أصل والأخت فرع، فنبّه بذلك على جميع الأصول والفروع، ووضحت السنة النبوية ذلك بالتفصيل وبصريح العبارة كما في الحديث السابق، وقد ثبت في الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابنة حمزة "إنها ابنة أخي من الرضاعة" .
المحرمات بسبب المصاهرة:
وأما المحرمات بسبب المصاهرة فقد ذكرت الآية الكريمة منهن أربعاً وهنّ كالتالي:
أ - زوجة الأب لقوله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ }.
ب - زوجة الابن لقوله تعالى: { وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ }.
جـ - أم الزوجة لقوله تعالى: { وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ }.
د - بنت الزوجة إذا دخل بأمها لقوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }.
والأصل في هذا أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على البنت، ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم للآية الكريمة { ٱلَّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وقد استنبط العلماء من ذلك هذه القاعدة الأصولية وهي: (العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات).
تنبيه: الربيبة (بنت الزوجة) التي دخل بأمها تحرم على الزوج سواء كانت في حَجْره أو لم تكن في حجره، والتقييد في قوله { ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ } ليس للشرط أو للقيد وإنما هو لبيان الغالب، لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بإجماع الفقهاء فتدبره.
المحرمات حرمة مؤقتة
وقد أشارت الآية الكريمة إلى من يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة وذكرت نوعين:
أ - الجمع بين الأختين لقوله تعالى: { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ } وألحقت السنة المطهرة (الجمع بين المرأة وعمتها) و(الجمع بين المرأة وخالتها) زيادة على الجمع بين الأختين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
والحكمة في ذلك خشية القطيعة لحديث ابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال:
"إنكم إذا فعلتم ذلك قطّعتم أرحامكم" .
ب - زوجة الغير أو معتدته رعاية لحق الزوج لقوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } أي المتزوجات من النساء، والمعتدة حكمها حكم المتزوجة ما دامت في العدة، وقد مر حكمها سابقاً في سورة البقرة [235] في قوله تعالى: { { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } وبينّا الحكمة في ذلك فارجع إليها هناك والله يتولاك.
الحكم الرابع: هل وطء أم الزوجة يحرّم الزوجية؟
اختلف العلماء في الزنى بأم الزوجة أو بنتها هل يحرّم الزوجية أم لا؟
فذهب أبو حنيفة والصاحبان إلى القول بالتحريم، وهو قول الثوري والأوزاعي وقتادة.
وذهب الشافعي إلى القول بعدم التحريم لأن الحرام لا يحرّم الحلال وهو قول الليث والزهري ومذهب (مالك)رحمه الله وهي رواية "الموطأ".
وسبب الخلاف هو اختلافهم في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء أم في العقد؟ فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ون قال: إن المراد به العقد لم يحرم الزنى.
فالحنفية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح الوطء، وقالوا: إن النكاح في الوطء حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى حتى يقوم الدليل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال، والوطء الحرام.
والشافعية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح العقد، وقالوا: مما يدل له من جهة النظر أن الله جعل الحرمة للمصاهرة تكريماً لها، كما جعل الحرمة من النسب تكريماً للنسب، فكيف تجعل هذه الحرمة للزنى وهو فاحشة ومقت؟!
قال الشافعي في "الأم": "فإن زنى بامرأة أبيه، أو أم امرأته فقد عصى الله ولا تحرم عليه امرأته ولا على أبيه ولا على ابنه، لأن الله إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزاً لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، وأثبت به الحرم التي لم تكن قبله وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال".
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لقوة دليلهم فقد روى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعدما يدخل بها فقال: تخطّى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته، وروي أنه قال: لا يحرم الحرام الحلال.
الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها.
تعريف المتعة: المتعة هي أن يستأجر الرجل المرأة إلى أجل معين بقدر معلوم، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتاً معلوماً شهراً أو شهرين، أو يوماً أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره، فحرمت الشريعة الإسلامية ذلك، ولم تبح إلا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار، وكل نكاح إلى أجل فهو باطل، لأنه لا يحقّق الهدف من الزواج.
وقد أجمع العلماء وفقهاء الامصار قاطبة على حرمة (نكاح المتعة) لم يخالف فيه إلاّ الروافض والشيعة، وقولهم مردود لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما روي عن ابن عباس من القول بحلها فقد ثبت رجوعه عنه كما أخرج الترمذي عنه رضي الله عنه أنه قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم، فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه" حتى نزلت الآية الكريمة
{ { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المعارج: 30] فكل فرج سواهما فهو حرام.
فقد ثبت رجوعه عن قوله وهو الصحيح. وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار، والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت قالوا:

قد قلت للشيخ لما طال مجلسهيا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسةتكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال: سبحان الله ما بهذا أفتيت!! وما هي إلاّ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا تحل إلاّ للمضطر.
ومن هنا قال الحازمي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات، حتى حرّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد.
الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة
احتج أهل السُنَّة على حرمة المتعة بوجوه نلخصها فيما يلي:
أولاً: إن الوطء لا يحل إلاّ في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [المؤمنون: 5-6] وهذه ليست زوجة وليست مملوكة، لأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث، وثبت النسب ووجبت العدة، وهذه لا تثبت باتفاق فيكون باطلاً.
ثانياً: إن الأحاديث الشريفة جاءت مصرحة بتحريمه، منها ما رواه مالك عن الزهري بسنده عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية.
ثالثاً: ما رواه ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم المتعة فقال:
"يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة" .
رابعاً: أن عمر رضي الله عنه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئاً فكان ذلك منهم إجماعاً.
خامساً: إن نكاح المتعة لا يقصد به إلاّ قضاء الشهوة، ولا يقصد به التناسل، ولا المحافظة على الأولاد، وهي المقاصد الأصلية للزواج، فهو يشبه الزنى من حيث قصد الاستمتاع دون غيره، وقد قال الله تعالى: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } وليس مقصود المتمتع إلا قضاء الشهوة، وصب الماء، واستفراغ أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد.
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى (علي) رضي الله عنه فقد صحّ عنه أنها نسخت، ونقل البيهقي عن (جعفر بن محمد) أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنى بعينه، فبطل بذلك كل مزاعم الشيعة.
تحقيق العلامة الشوكاني
قال الشوكاني: (وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد، ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا، حتى قال ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، واللهِ لا أعلم أحداً تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة).
وقال ابن الجوزي: "وقد تكلف قوم من المفسّرين فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا يحتاج إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله (يعني بالسنة) وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة وإنما المراد بها الاستمتاع في النكاح".
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تحريم الاعتداء على النساء بالظلم والاستبداد، ووجوب الإحسان إليهن وصحبتهن بالمعروف.
2 - الصبر على المرأة عند الكراهية، وعدم التضييق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال.
3 - تحريم أخذ شيء من مهر المرأة عند الطلاق بدون مسوّغ شرعي يبيحه الإسلام.
4 - إبطال بعض عادات الجاهلية ومنها الزواج بامرأة الأب بعد الوفاة.
5 - المحرمات من النساء اللواتي يحرمن على الرجل بالنسب، والرضاع، والمصاهرة.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
حرّم الباري جلّ وعلا نكاح المحارم من النساء سواء كانت القرابة عن طريق النسب، أو الرضاع، أو المصاهرة، وجعل هذه الحرمة مؤبدة لا تحل بحال من الأحوال، وذلك لحكم عظيمة جليلة نبينها بإيجاز فيما يلي:
أما تحريم النساء من النسب فإن الله جل ثناؤه جعل بين الناس ضروباً من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على جلب المنافع ودفع المضار، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة ولما اقتضت طبيعة الوجود (تكوين الأسرة) وكانت الأسرة محتاجة إلى الاختلاط بين أفرادها بسبب هذه الصلة القوية (صلة النسب) فلو أبيح الزواج من المحارم لتطلعت النفوس إليهن، وكان فيهن مطمع، والنفوس بطبعها مجبولة على الغيرة، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته، وذلك يدعو إلى النزاع والخصام، وتفكك الأسرة، وحدوث القتل الذي يدمّر الأسرة والمجتمع.
ثم إنّ الوليد يتكون جنيناً من دم الأم، ثم يكون طفلاً يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصَّة من ثديها عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحداً في الدنيا مثل أمه، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب الاستمتاع بالشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟!
ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات ثم الأخوات ثم العمات والخالات إلخ.
وقد أودع الله في الإنسان فطرة نقية تحجزه عن التفكير في محارمه فضلاً عن حب الاستمتاع بهن، ولولا ما عهد في الإنسان من الشذوذ والجناية على الفطرة، والعبث بها لكان للمرء أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات لأن هذا من قبيل المستحيلات في نظر الإنسان العاقل، سليم الفطرة والتفكير.
ثم إن هناك حكمة جسدية حيوية عظيمة، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سبباً لضعف النسل، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى (النحافة) حتى ينقرض النسل، وهذا ما أشار إليه الإمام الغزاليرحمه الله في كتابه "الإحياء" حيث قال: "إنّ من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، فإن الولد يُخْلق ضاوياً أي (نحيفاً) وعلّل ذلك بأن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحساس بالنظر أو اللمس، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود فإنه يضعف الحسّ ولا تنبعث به الشهوة" وهو تعليل دقيق أقره العلم الحديث.
وأمّا المحرمات بالمصاهرة فإن الله عز وجل أكرم البشرية بهذه الرابطة الإنسانية، وامتنّ على الناس بقرابة الصهر، التي تجمع بين النفوس المتباعدة المتنافرة بروابط الألفة والمحبة
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [الفرقان: 54] فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، فينبغي أن تكون أم زوجته بمنزلة أمه في الاحترام، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنته وهكذا.
ومن القبح جداً أن تكون البنت ضرة لأمها، والابن طامعاً في زوجة أبيه، فإن ذلك ينافي حكمة المصاهرة، ويكون سبب فساد العشيرة.
وأما المحرمات بالرضاع فإن الحكمة فيهن ظاهرة، وهي أن من رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءاً منها، لأن تكوّن من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته، وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلاً واحداً هو ذلك اللبن والله تعالى أعلم.