التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

تفسير آيات الأحكام

[5] حرمة الصلاة على السكران والجنب
التحليل اللفظي
{ سُكَٰرَىٰ }: قال في "اللسان": السّكر نقيض الصحو، وأسكره الشراب، والجمع سُكارى وسَكْرى، شبّه بالنّوْكى، والحمقى، والهلْكَى لزوال عقل السكران.
وقال الراغب: السّكْر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق ولذلك قال الشاعر:

سُكْرانِ سُكْرُ هَوى وسكرُ مُدام

وأصل السُّكْر من السِّكْر وهو سد مجرى الماء، فبالسّكْر ينسد طريق المعرفة، وسكرةُ الموت شدته.
{ جُنُباً }: الجنب اسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع يقال: رجل جنب، ورجال جنب، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة جنب، لأن جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر.
{ عَابِرِي سَبِيلٍ }: العابر من العبور يقال: عبرت النهر والطريق إذا قطعته من الجانب إلى الجانب الآخر، السبيلُ: الطريقُ ويراد يعابر السبيل المسافر، أو الذي يعبر بالمسجد أي يمر به.
{ ٱلْغَآئِطِ }: الغائط المكان المطئن من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب منخفضاً من الأرض ليغيب عن عيون الناس، ثمّ كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائطاً، فكنّوا به عن الحدث تسمية للشيء باسم مكانه.
{ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ }: اللمس حقيقته المس باليد، وإذا أضيف إلى النساء يراد به الجماع، وقد كثر هذا الاستعمال في لغة العرب، والقرآن قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع في آيات عديدة قال تعالى:
{ { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 3] وقال تعالى: { { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } [البقرة: 187].
{ فَتَيَمَّمُواْ }: التيمم في اللغة: القصد يقال: تيممته برمحي أي قصدته دون غيره، وأنشد الخليل:

يمّمتُه الرمح شَزْراً ثم قلتُ لههذي البسالةُ لا لعبُ الزحاليق

وتيمّم البلدة قصد التوجه إليها قال الشاعر:

وما أدري إذا يمّمتُ أرضاًأريدُ الخير أيّهما يليني

وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بالتراب بقصد الطهارة، وقد جمع الشاعر المعنيين بقوله:

تيمّمتُكُم لمّا فقدتُ أولي النّهىومن لم يجد (ماءً) تيمَّمَ بالترب

{ صَعِيداً طَيِّباً }: قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال تعالى { { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [الكهف: 8] وقال تعالى: { { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [الكهف: 40] أي أرضاً ملساء تنزلق عليها الأقدام، وسمي صعيداً لأنه يصعد من الأرض.
قال صاحب "القاموس": الصعيد التراب، ووجه الأرض.
قال ابن قتيبة: ومعنى { صَعِيداً طَيِّباً } أي تراباً نظيفاً.
{ فَٱمْسَحُواْ }: قال في "اللسان": المسحُ إمرارك يدك على الشيء تريد إذهابه، كمسحك رأسك من الماء، وجبينك في الرّشح، مسحه مسحاً وتمسَّح منه وبه.
{ عَفُوّاً غَفُوراً }: أي مسامحاً لعباده، متجاوزاً عمّا صدر منهم من خطأٍ وتقصير.
المعنى الإجمالي
نهى الله عباده المؤمنين عن أداء الصلاة في حالة السكر، لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته تعالى بكتابه وذكره ودعائه، وقد كان هذا قبل أن تحرم الخمر، وكان تمهيداً لتحريمه تحريماً باتاً، إذ لا يأمن من شرب الخمر في النهار أن تدركه الصلاة وهو سكران، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر.
والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا ما تقولون وتقرؤون في صلاتكم، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلاّ إذا كنتم مسافرين فإذا اغتسلتم فصلوا. وإن كنتم مرضى ويضركم استعمال الماء، أو مسافرين ولم تجدوا الماء، أو أحدثتم ببول أو غائط حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء حدثاً أكبر، ولم تجدوا ماءً تتطهرون به، فاقصدوا صعيداً طيباً من وجه الأرض فتطهروا به، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا، ذلك رحمة من ربكم وتيسير عليكم، لأن الله يريد بكم اليسر، وكان الله عفواً غفوراً.
سبب النزول
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: "صنع لنا (عبد الرحمٰن بن عوف) طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون" قال، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الفخر الرازي: فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في المائدة.
وجوه القراءات
قرأ الجمهور { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } وقرأ حمزة والكسائي (لَمَسْتُم النّسَاءَ) بغير ألف.
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير الفاعل في تقربوا.
2 - قوله تعالى: { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً } صعيداً مفعول تيمموا أي قصدوا صعيداً، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بصعيد.
3 - قوله تعالى: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } قال العكبري: الباء زائدة أي امسحوا وجوهكم به.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: ورد التعبير بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } والنهي بهذه الصيغة أبلغ من قوله: "لا تصلوا وأنتم سكارى" فإذا حرم قربان الصلاة ففعلها وأداوها يكون ممنوعاً من باب أولى فهو كقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } [الإسراء: 32] وقوله: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152].
قال أبو السعود: "وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك، وقيل: المراد النهي عن قربان المساجد ويأباه قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }.
اللطيفة الثانية: التدرج في تحريم الخمر بهذه الطريقة الحكيمة التي سلكها القرآن الكريم برهان ساطع على عظمة الشريعة الغراء، فإن العرب كانوا يشربون الخمر كما يشرب أحدنا الماء الزلال، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لثقل عليهم تركها، ولما أمكن اقتلاع جذورها من قلوبهم، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "أول ما نزل من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، فلما ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمرة لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً".
اللطيفة الثالثة: التعليل بقوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فيه إشارة لطيفة إلى أن المصلي ينبغي عليه أن يكون خاشعاً في صلاته يعرف ما يقوله من تلاوة، وذكر، وتسبيح، وتمجيد، فقد نهى سبحانه السكران عن الصلاة لأنه فاقد التمييز لا يعرف ماذا قرأ؟ فإذا لم يعرف المصلي المستغرق بهموم الدنيا كم صلى، وماذا قرأ؟ فقد أشبه السكران، ولهذا ورد عن بعضهم تفسير السكر بأنه السكر من النوم والنعاس، وهو صحيح في المعنى ولكنه بعيد في التفسير لا يناسبه سبب النزول.
اللطيفة الرابعة: طريقة القرآن الكريم (الكناية) عمّا لا يحسن التصريح به من الألفاظ، وهذا أدب من آداب القرآن لإرشاد الأمة إلى سلوكه عند تخاطبهم، فقد كنّى عن الحدث بالمجيء من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض يقصده الإنسان لقضاء حاجته تستراً واستخفاءً عن الأبصار، ثم صار حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن ومجامعتهن، ولمّا كان لفظ الجماع لا يجمل التصريح به فقد أورده بالكناية { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ }.
ففي الآية الكريمة كنايتان وهما من لطيف العبارة ورائع البيان.
اللطيفة الخامسة: قال في "البحر المحيط": "وفي الآية تغليب الخطاب، إذ قد اجتمع خطاب وغيبة فالخطاب { كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } و{ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } والغيبة قوله: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كنّى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ } وهذا من أحسن الملاحظات، وأجمل المخاطبات، ولمّا كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب" فتدبر هذا السر الدقيق.
اللطيفة السادسة:
"روي أن الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وانقطع عقد لعائشة رضي الله عنها، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه وليس معهم ماء، فأغلظ (أبو بكر) على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس معهم ماء؟ فنزلت الآية، فلما صلّوا بالتيمم وأرادوا السير بعثوا الجمل فوجدوا العقد تحته" ، فقال (أسيد بن حضير) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، يرحمك الله يا عائشة فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً وفرجاً.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما المراد من قوله تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ }؟
اختلف العلماء في المراد من الصلاة في الآية الكريمة، فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة، وهو مذهب (أبي حنيفة) ومروي عن (علي) و(مجاهد) و(قتادة).
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف، وهو مذهب (الشافعي) ومروي عن ابن مسعود، وأنس، وسعيد بن المسيب.
استدل الفريق الأول بأنّ الله تعالى قال: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة من قراءة، ودعاءٍ، وذكر، يمنع منها السكر، فكان الحمل على ظاهر اللفظ أولى.
واستدل الفريق الثاني بأن القرب والبعد أولى أن يكون في المحسوسات فحمله على المسجد أولى، ولأنّا إذا حملناه على الصلاة لم يصحّ الاستثناء في قوله { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء، وكان المراد به النهي عن دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور.
فسرّ الحنفية (عابر السبيل) بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصّلي، وقد اختار الطبري القول الأول وهو الظاهر المتبادر لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى. ويؤيد ذلك ما ورد في سبب النزول.
قال في "تفسير المنار": "والمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي، وفي التنزيل خاصة
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } [الإسراء: 32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته".
وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي وهو هل يحل للجنب دخول المسجد؟
فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة كقوله عليه السلام:
"فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وغير ذلك من الأدلة.
وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصاً في حرمة دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث.
الحكم الثاني: ما هي الأسباب المبيحة للتيمم؟
ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم وهي أربعة (المرض، السفر، المجيء من الغائط، ملامسة النساء) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء، والمرض أياً كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط عند عدم الماء، لقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فهذا القيد راجع إلى الكل، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال فيكون كالفاقد للماء، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكماً، ويدل عليه ما ورد في السنة المطهرة من حديث جابر رضي الله عنه قال:
"خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منّا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال" .
ويدل عليه أيضاً ما روي "عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً" .
قال ابن تيمية: في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة.
بقي أنه ما الفائدة إذاً من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح، كلهم على السوء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
أجاب المفسّرون عن ذلك بأن المسافر لمّا كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية والله أعلم.
الحكم الثالث: ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟
اختلف السلف رضوان الله عليهم في المراد من الملامسة في قوله تعالى: { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } فذهب علي، وابن عباس، والحسن إلى أن المراد به الجماع، وهو مذهب الحنفية. وذهب ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي إلى أن المراد به اللمس باليد، وهو مذهب الشافعية.
قال ابن جرير الطبري: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم روى عن عائشة قالت:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي" ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: قلتُ: من هي إلاّ أنت؟ فضحكت".
وقد اختلف الفقهاء في مسّ المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال.
أ - فذهب أبو حنيفة إلى أن مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أم بغير شهوة.
ب - وذهب الشافعي إلى أن مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغير شهوة.
جـ - وذهب مالك إلى أن المسّ إن كان بشهوة انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض.
دليل الحنفية:
استدل أبو حنيفة بأن المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبّل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. واستدل أيضاً بما روي عن عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك...
وأما الآية فهي كناية عن الجماع كما نقل عن ابن عباس، واللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلاّ أنه قد عهد في القرآن استعماله بطريق الكناية مثل قوله تعالى:
{ { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237] وقوله: { { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 3].
دليل الشافعية:
واستدل الشافعي بظاهر الآية الكريمة فقال: إن اللمس حقيقة في المس باليد، وفي الجماع مجاز أو كناية، والأصل حمل الكلام على حقيقته، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وقد ترجح ذلك بالقراءة الثانية { أو لمستم النساء } فكان حمله على ما قلنا أولى.
قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد": "وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازاً على الجماع، وإذا تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز.
وقال الآخرون: إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم "الغائط" الذي هو أدل على الحدث الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة.
ثم قال: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين إلاّ أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازاً لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس".
الترجيح: ولعل هذا الرأي يكون أرجح، لأنّ به يمكن التوفيق بين الآية الكريمة والآثار السابقة، ولأنه قد تعورف عند إضافة المس إلى النساء معنى الجماع، حتى كاد يكون ظاهراً فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع والله أعلم.
الحكم الرابع: ما المراد بالصعيد الطيب في الآية الكريمة؟
اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فقال بعضهم: إنه التراب، وقال بعضهم: إنه وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وقال آخرون: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس. وبناءً على هذا الاختلاف اللغوي اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم.
أ - فقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالتراب وبالحجر وبكل شيء من الأرض ولو لم يكن عليه تراب.
ب - قال الشافعي: بل لا بدّ من التراب الذي يلتصق بيده، فإذا لم يوجد التراب لم يصح التيمم.
حجة أبي حنيفة: احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد ما تصاعد من الأرض فقوله تعالى: { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أي اقصدوا أرضاً طاهرة، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً، واشترط تلميذه (أبو يوسف) أن يكون المتيمَم به تراباً أو رملاً.
حجة الشافعي: واحتج الشافعي من جهتين: الأول أن الله تعالى أوجب كون الصعيد طيباً، والأرض الطيبة هي التي تُنبت، بدليل قوله تعالى:
{ { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة.
والثاني: أن الآية مطلقة هنا، ومقيدة في سورة المائدة بكلمة (منه) في قوله تعالى:
{ { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [المائدة: 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لا سيما وقد خصصه النبي عليه السلام به في قوله:
"التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء" .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - تحريم الصلاة على السكران حال السكر حتى يصحو ويعود إليه رشده.
2 - تحريم الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد على الجنب حتى يغتسل.
3 - المريض والمسافر والمحدث حدثاً أصغر أو أكبر يجوز لهم التيمم إذا فقدوا الماء.
4 - التراب طهور المسلم عند فقد الماء ولو دام ذلك سنين عديدة.
5 - التيمم يكون بمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بالتراب الطاهر.