التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٥
وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٦
لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
٧
وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٨
وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

تفسير آيات الأحكام

[2] رعاية الإسلام لأموال الأيتام
التحليل اللفظي
{ ٱلسُّفَهَآءَ }: أصل السفه في اللغة الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر إذا أمالته، ورجل سفيه إذا كان ناقص التفكير خفيف الحلم، والمراد به هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله، أو يبذره في غير الطرق المشروعة.
قال في "الكشاف": "السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها".
{ قِيَٰماً }: أي به معاشكم وقوام حياتكم.
قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة تقول: هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك.
{ وَٱبْتَلُواْ }: الابتلاء: الاختبار أي اختبروا عقولهم وتصرفهم في أموالهم.
{ آنَسْتُمْ }: أي علمتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس: الإبصار ومنه قوله تعالى:
{ { آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } [القصص: 29] قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً؟ أي تبصّر.
{ رُشْداً }: الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال.
{ إِسْرَافاً }: الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء، والسرف التبذير.
{ وَبِدَاراً }: معناه مبادرة أي مسارعة، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به.
{ فَلْيَسْتَعْفِفْ }: استعفّ عن الشيء كفّ عنه وتركه، وهو أبلغ من (عفّ) كأنه طلب زيادة العفة.
{ حَسِيباً }: أي محاسباً لأعمالكم ومجازياً لكم عليها.
قال الأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، ومن الثاني قولهم: حسبك الله أي كافيك الله. قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64].
{ ٱلْقِسْمَةَ }: المراد بالقسمة في الآية قسمة التركة بين المستحقين من الأقرباء.
{ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ }: المراد بهم الأقرباء الذين لا يرثون لكونهم محجوبين، أو لكونهم من ذوي الأرحام.
{ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }: أي قولاً طيباً لطيفاً فيه نوع من الاعتذار، وتطييب الخاطر، قال سعيد بن جبير: يقول الولي للقريب: خذ بارك الله فيك، إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار.
{ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }: أي سيدخلون ويذوقون ناراً حامية مستعرة يصطلي الإنسان بحرّها ولهبها.
المعنى الإجمالي
نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها الله للناس قياماً، تقوم بها حياتهم ومعايشهم، وأمر بالإنفاق عليهم بشتى أنواع الإنفاق من الكسوة والإطعام وسائر الحاجات، كما أمر تعالى باختبار اليتامى حتى إذا رأوا منهم صلاحاً في الدين، وحفظاً للأموال، فعلى الأوصياء أن يدفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير، وعليهم ألاّ يبذّروها ويفرطوا في انفاقها، ويقولوا: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا، فمن كان غنياً فليكفّ عن مال اليتيم، ومن كان فقيراً فليأكل بقدر الحاجة، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلمها وكفى بالله محاسباً ورقيباً. ثم بيّن تعالى أن للرجال نصيباً من تركة أقربائهم، كما للنساء، فرضها الله لهم بشرعه العادل وكتابه المبين، وأمر بإعطاء أولي القربى واليتامى والمساكين من غير الوارثين شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم وإحساناً إليهم.
ثم حذَّر تعالى الأوصياء من الظلم للأيتام الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم، وأمرهم بالإحسان إليهم، فكما يخشى الإنسان على أولاده الصغار الضعاف بعد موته، عليه أن يتقي الله في هؤلاء الأيتام فكأنه تعالى يقول: افعلوا باليتامى، كما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم.
ثم ختم تعالى الآيات ببيان جزاء الظالمين الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وعدواناً، وبيّن أنهم إنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة، وسيدخلون السعير وهي نار جهنم المستعرة أعاذنا الله منها.
سبب النزول
أولاً: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الولدان الصغار شيئاً، ويجعلون الميراث للرجال الكبار فأنزل الله { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ... } الآية.
ثانياً: وروي عن ابن عباس أنه قال: "كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: (أوس بن ثابت) وترك ابنتين وابناً صغيراً فجاء ابنا عمه فأخذوا ميراثه كله. فقالت امرأته لهما تزوجا بهما - وكان بهما دمامة - فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فنزلت الآية: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما فقال لهما: لا تحركا من الميراث شيئاً فقد أخبرت أن للذكر والأنثى نصيباً، ثم نزل قوله تعالى:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } [النساء: 11].
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً }، وقرأ نافع وأهل المدينة (قِيَماً) بدون ألف.
2 - قرأ الجمهور { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } بضم الراء، وقرأ السلمي (رَشَداً) بفتح الراء والشين.
3 - قرأ الجمهور { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } وقرأ ابن عامر وعاصم (وسَيُصْلُون) بالبناء للمجهول.
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } مفعول لأجله ويجوز أن تعرب حالاً أي لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، وقوله (أن يكبروا) في محل نصب بـ (بداراً).
ثانياً: قوله تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } الباء زائدة ولفظ الجلالة فاعل و(حسيباً) تمييز.
ثالثاً: قوله تعالى: { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصيباً منصوب على المصدر و(مفروضاً) صفة له.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: أضاف أموال اليتامى إلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إلى التكافل بين أفراد الأمة، والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها، فإن تبذير السفيه للمال فيه مضرة للمجتمع، وهو كقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء: 29] عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لهذه الرابطة بين أفراد المجتمع. قال الفخر الرازي: "المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه (الوحدة النوعية) حسنت إضافة أموال السفهاء إلى الأولياء".
اللطيفة الثانية: لمّا كان المال سبباً لبقاء الإنسان وقيام شؤون حياته ومعاشه، سمّاه تعالى بالقيام إطلاقاً لاسم (المسبَّب) على (السبب) على سبيل المبالغة. ولهذا كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس.
اللطيفة الثالثة: قال صاحب "الكشاف": "الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرفٍ من الرشد، وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد".
اللطيفة الرابعة: لفظ (استعفّ) أبلغ من (عفّ) كأنه يطلب زيادة العفة قاله أبو السعود. وفي لفظ الاستعفاف، والأكل بالمعروف، ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه بتدبير مال اليتيم، وقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
"إنّ في حجْري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثل مالاً، ولا واقٍ مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: ممّا كنت ضارباً منه ولدك" .
اللطيفة الخامسة: في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي، مع أنه كان يكفي أن يقول: للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون... إلخ للاعتناء بأمر النساء، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرساً، ولا يحمل سلاحاً، ولا يقاتل عدواً؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق (الإطناب) فتدبر أسرار الكتاب المجيد.
اللطيفة السادسة: ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة، فهو كقول القائل: أبصرتُ بعيني، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] وقوله: { { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [الأحزاب: 4] وقوله: { { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة، وفي الآية أيضاً تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء.
اللطيفة السابعة: قال القرطبي: "سمي المأكول ناراً باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى:
{ { إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } [يوسف: 36] أي عنباً يؤول إلى الخمر، وقيل: المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه".
اللطيفة الثامنة: قال الفخر الرازي: "وما أشد دلالة هذا الوعيد { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى".
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟
اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد.
وقال بعضهم: المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجاً أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك. وقيل: المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس.
وقال آخرون: المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز.
قال الطبري: "إن الله جل ثناؤه عمّم، فلم يخص سفيهاً دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله، صبياً صغيراً كان، أو رجلاً كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده وإفساده، وسوء تدبيره".
الحكم الثاني: هل يحجر على السفيه؟
استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب (الحجر على السفيه) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد، ويبلغوا سنّ الاحتلام.
والحجر على أنواع: فتارة يكون (الحجر للصغر) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة.
وتارة يكون (الحجر للجنون) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل.
وتارة يكون (الحجر للسفه) كالذي يبذّر المال، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه.
وتارة يكون (الحجر للإفلاس) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها.
وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فقد شرطت الآية شرطين: الأول: البلوغ، والثاني: الرشد وهو حسن التصرف في المال، وقال الشافعي: لا بدّ أن ينضم الصلاح في الدين، مع حسن الصلاح في المال، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة.
وسبب الخلاف يرجع إلى معنى (الرشد) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو (العقل) وقول قتادة هو الصلاح في (العقل والدين) وقول ابن عباس هو (الصلاح في الأموال) ثم قال:
"وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد (العقل وإصلاح المال) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجراً في دينه".
أقول: ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهداراً للكرامة الإنسانية، وإنما يقال: إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلاً فلا يجب الحجر، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة، حيث جاء لفظ الرشد منكّراً، { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } أي نوعاً من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال، ولم يأت معرفاً والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم.
الحكم الثالث: هل يحجر على الكبير؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهاً.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمساً وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيداً أو غير رشيد.
قال العلامة القرطبي: "واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلاّ أن يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسداً أو غير مفسد لأنه يصير جَدّاً، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جداً".
أقول: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) أيضاً، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال، وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائماً بالشيخ والشاب، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها".
الحكم الرابع: هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟
دلّ قوله تعالى: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيراً بمقدار الحاجة من غير إسراف، وإذا كان غنياً وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم، ويقنع بما رزقه الله من الغنى، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟
فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة، وهذا مروي عن الإمام أحمدرحمه الله .
وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت".
وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنياً أو فقيراً، واحتجوا بعموم الآيات
{ { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2]، { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ }، { { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 127] { { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [البقرة: 188].
قال الجصاص فهذه محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصيّه، وقوله: { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات.
وروي عن ابن عباس أنه قال: { وَمَن كَانَ فَقِيراً } الآية نسختها { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً } إلخ.
الترجيح: وقد رجح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } المراد أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله".
أقول: ولعلَّ هذا القول أرجح، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال.
2 - الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق.
3 - اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد.
4 - ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار.
5 - تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقاً للذكور والإناث في مال الأقرباء.
6 - وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده.
7 - الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار.