التفاسير

< >
عرض

للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي جل ثناؤه بقوله: { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } لله ملك كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من صغير وكبـير، وإلـيه تدبـير جميعه، وبـيده صرفه وتقلـيبه، لا يخفـى علـيه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنـما عنى بذلك جلّ ثناؤه: كتـمان الشهود الشهادة، يقول: لا تكتـموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتـمها يفجر قلبه، ولن يخفـى علـيّ كتـمانه، وذلك لأنـي بكل شيء علـيـم، وبـيدي صرف كل شيء فـي السموات والأرض وملكه، أعلـمه خفـيّ ذلك وجلّـيه، فـاتقوا عقابـي إياكم علـى كتـمانكم الشهادة. وعيداً من الله بذلك من كتـمها وتـخويفـاً منه له به. ثم أخبرهم عما هو فـاعل بهم فـي آخرتهم، وبـمن كان من نظرائهم مـمن انطوى كشحا علـى معصية فأضمرها، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من الـمـحاسبة علـيها، فقال: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يقول: وإن تظهروا فـيـما عندكم من الشهادة علـى حقّ ربّ الـمال الـجحود والإنكار، أو تـخفوا ذلك فتضمروه فـي أنفسكم وغير ذلك من سيىء أعمالكم، { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يعنـي بذلك: يحتسب به علـيه من أعماله، فـيجازي من شاء منكم من الـمسيئين بسوء عمله، وغافر منكم لـمن شاء من الـمسيئين.

ثم اختلف أهل التأويـل فـيـما عنى بقوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فقال بعضهم بـما قلنا من أنه عنى به الشهود فـي كتـمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم مـمن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيـى بن أبـي زائدة، قال: ثنا أبو نفـيـل، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يقول: يعنِـي فـي الشهادة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: فـي الشهادة.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا عبد الأعلـى، قال: سئل داود عن قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فحدثنا عن عكرمة، قال: هي الشهادة إذا كتـمتها.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو وأبـي سعيد، أنه سمع عكرمة يقول فـي هذه الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: فـي الشهادة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن السدي، عن الشعبـي فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: فـي الشهادة.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس، أنه قال فـي هذه الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: نزلت فـي كتـمان الشهادة وإقامتها.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن عكرمة فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يعنـي كتـمان الشهادة وإقامتها علـى وجهها.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبـارك وتعالـى عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعملوه. ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك، فقال بعضهم: ثم نسخ الله ذلك بقوله: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286]. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسحاق بن سلـيـمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: لـما نزلت: { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } اشتدّ ذلك علـى القوم، فقالوا: يا رسول الله إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا؟ هلكناٰ فأنزل الله عزّ وجلّ: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] الآية، إلـى قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: نَعَمْ" . { { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة: 286] إلـى آخر الآية، قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عزّ وجلّ نعم" .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: ثنا سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبـير يحدّث عن ابن عبـاس قال: لما نزلت هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } دخـل قلوبهم منها شيء لـم يدخـلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلَّـمْنَا" . قال: فألقـى الله عزّ وجلّ الإيـمان فـي قلوبهم، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: { { ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285]. قال أبو كريب: فقرأ: { { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال: فقال: «قد فعلت». { { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة: 286] قال: «قد فعلت». { { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286] قال: «قد فعلت». { { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [البقرة: 286] قال: «قد فعلت».

حدثنـي أبو الرداد الـمصري عبد الله بن عبد السلام، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح، قال: سمعت يزيد بن أبـي حبـيب، يقول: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن مرجانة، قال: جئت عبد الله بن عمر، فتلا هذه الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء }. ثم قال ابن عمر: لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكنّ. ثم بكى ابن عمر حتـى سالت دموعه. قال: ثم جئت عبد الله بن العبـاس، فقلت: يا أبـا عبـاس، إنـي جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }... الآية، ثم قال: لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكن ثم بكى حتـى سالت دموعه. فقال ابن عبـاس: يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرِق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها، فأنزل الله: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] فنسخ الله الوسوسة، وأثبت القول والفعل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدّث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }... الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتـى سمع نشيجه. فقال ابن مرجانة: فقمت حتـى أتـيت ابن عبـاس، فذكرت له ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عبـاس: يغفر الله لأبـي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد الـمسلـمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر، فأنزل الله بعدها: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلـى آخر السورة. قال ابن عبـاس: فكانت هذه الوسوسة مـما لا طاقة للـمسلـمين بها، وصار الأمر إلـى أن قضى الله عزّ وجلّ: أن للنفس ما كسبت وعلـيها ما اكتسبت فـي القول والفعل.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: قرأها ابن عمر، فبكى وقال: إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسناٰ فبكى حتـى سمع نشيجه، فقام رجل من عنده، فأتـى ابن عبـاس، فذكر ذلك له، فقال: رحم الله ابن عمر لقد وجد الـمسلـمون نـحوا مـما وجد، حتـى نزلت: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286].

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سلـيـمان، عن حميد الأعرج، عن مـجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }... الآية. فبكىٰ فدخـلت علـى ابن عبـاس، فذكرت له ذلك، فضحك ابن عبـاس فقال: يرحم الله ابن عمر، أو ما يدري فـيـم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غماً شديداً، وقالوا: يا رسول الله هلكناٰ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنا" ، فنسختها: { { مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ } [البقرة: 285] إلـى قوله: { { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] فتـجوّز لهم من حديث النفس، وأخذوا بـالأعمال.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفـيان بن حسين، عن الزهري، عن سالـم أن أبـاه قرأ: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فدمعت عينه. فبلغ صنـيعه ابن عبـاس، فقال: يرحم الله أبـا عبد الرحمنٰ لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، فنسختها الآية التـي بعدها: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286].

حدثنا مـحمد بن بشار، قال أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال: نسخت هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286].

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما نزلت هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قالوا: أنؤاخذ بـما حدثنا به أنفسنا ولـم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة، لـم تعطها الأمـم قبلها.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير بن نوح، قال: ثنا إسماعيـل، عن عامر: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } قال: فنسختها الآية بعدها قوله: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: نسختها الآية التـي بعدها: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]. وقوله: { وَإِن تُبْدُواْ } قال: يحاسب بـما أبدى من سرّ أو أخفـى من سرّ، فنسختها التـي بعدها.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا سيار، عن الشعبـي، قال: لـما نزلت هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } قال: فكان فـيها شدة حتـى نزلت هذه الآية التـي بعدها: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] قال: فنسخت ما كان قبلها.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، عن ابن عون، قال: ذكروا عند الشعبـي: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } حتـى بلغ: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] قال: فقال الشعبـي: إلـى هذا صار، رجعت إلـى آخر الآية.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } قال: قال ابن مسعود: كانت الـمـحاسبة قبل أن تنزل: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] فلـما نزلت نسخت الآية التـي كانت قبلها.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك، يذكر عن ابن مسعود، نـحوه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن بـيان، عن الشعبـي، قال: نسخت: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] .

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب وسفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، وعن إبراهيـم بن مهاجر، عن مـجاهد، قالوا: نسخت هذه الآية: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }... الآية.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عكرمة وعامر، بـمثله.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج، قال: ثنا حماد بن حميد، عن الـحسن فـي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } إلـى آخر الآية، قال: مـحتها: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أنه قال: نسخت هذه الآية، يعنـي قوله: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] ... الآية التـي كانت قبلها: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: نسختها قوله: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] .

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي ابن زيد، قال: لـما نزلت هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }... إلـى آخر الآية، اشتدّت علـى الـمسلـمين، وشقت مشقة شديدة، فقالوا: يا رسول الله لو وقع فـي أنفسنا شيء لـم نعمل به واخذنا الله به؟ قال: "فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ كَما قَالَ بَنُو إِسْرَائِيـلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنا" ، قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. قال: فنزل القرآن يفرجها عنهم: { { آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة: 285] إلـى قوله: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] قال: فصيره إلـى الأعمال، وترك ما يقع فـي القلوب.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا الـحجاج، قال: ثنا هشيـم، عن سيار، عن أبـي الـحكم، عن الشعبـي، عن أبـي عبـيدة، عن عبد الله بن مسعود فـي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: نسخت هذه الآية التـي بعدها: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بـما وسوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلـى النبـي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدنا وإن لـم يعمل أُخذنا به؟ والله ما نـملك الوسوسةٰ فنسخها الله بهذه الآية التـي بعدها بقوله: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } فكان حديث النفس مـما لـم تطيقوا.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة أن عائشة أم الـمؤمنـين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }.

وقال آخرون مـمن قال معنى ذلك: «الإعلام من الله عز وجل عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبـما حدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعملوه». هذه الآية مـحكمة غير منسوخة، والله عز وجل مـحاسب خـلقه علـى ما عملوا من عمل وعلـى ما لـم يعملوه مـما أصرّوه فـي أنفسهم ونووه وأرادوه، فـيغفره للـمؤمنـين، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفـاق. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فإنها لـم تنسخ، ولكن الله عزّ وجل إذا جمع الـخلائق يوم القـيامة، يقول الله عزّ وجل: إنـي أخبركم بـما أخفـيتـم فـي أنفسكم مـما لـم تطلع علـيه ملائكتـي، فأما الـمؤمنون فـيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يقول: يخبركم. وأما أهل الشكّ والريب، فـيخبرهم بـما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } وهو قوله: { { وَلَـٰكِنِ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة: 225] من الشكّ والنفـاق.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فذلك سرّ عملكم وعلانـيته، يحاسبكم به الله، فلـيس من عبد مؤمن يسر فـي نفسه خيراً لـيعمل به، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات، وإن هو لـم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن، والله يرضى سرّ الـمؤمنـين وعلانـيتهم، وإن كان سوأً حدّث به نفسه اطلع الله علـيه وأخبره به يوم تبلـى السرائر، وإن هو لـم يعمل به لـم يؤاخذه الله به حتـى يعمل به، فإن هو عمل به تـجاوز الله عنه، كما قال: { { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ } [الأحقاف: 16] .

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }... الآية. قال: قال ابن عبـاس: إن الله يقول يوم القـيامة: إن كتابـي لـم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتـم فـي أنفسكم فأنا أحاسبكم به الـيوم، فأغفر لـمن شئت، وأعذّب من شئت.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا علـيّ بن عاصم، قال: أخبرنا بـيان، عن بشر، عن قـيس بن أبـي حازم، قال: إذا كان يوم القـيامة، قال الله عزّ وجلّ يُسمِع الـخلائق: إنـما كان كتابـي يكتبون علـيكم ما ظهر منكم، فأما ما أسررتـم فلـم يكونوا يكتبونه، ولا يعلـمونه، أنا الله أعلـم بذلك كله منكم، فأغفر لـمن شئت، وأعذّب من شئت.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } كان ابن عبـاس يقول: إذا دعي الناس للـحساب، أخبرهم الله بـما كانوا يسرّون فـي أنفسهم مـما لـم يعملوه، فـيقول: إنه كان لا يعزب عنـي شيء، وإنـي مخبركم بـما كنتـم تسرّون من السوء، ولـم تكن حفظتكم علـيكم مطلعين علـيه. فهذه الـمـحاسبة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو نميله، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك، عن ابن عبـاس، نـحوه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: هي مـحكمة لـم ينسخها شيء، يقول: يحاسبكم به الله، يقول: يعرّفه الله يوم القـيامة أنك أخفـيت فـي صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن عمرو بن عبـيد، عن الـحسن، قال: هي مـحكمة لـم تنسخ.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، قال: ثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: من الشكّ والـيقـين.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله عزّ وجلّ: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يقول: فـي الـيقـين والشك.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

فتأويـل هذه الآية علـى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من شيء من الأعمال، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تـخفوه فتسرّوه فـي أنفسكم، فلـم يطلع علـيه أحد من خـلقـي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيـمان، وأعذّب أهل الشرك والنفـاق فـي دينـي.

وأما علـى الرواية التـي رواها عنه الضحاك من رواية عبـيد بن سلـيـمان عنه، وعلـى ما قاله الربـيع بن أنس، فإن تأويـلها: إن تظهروا ما فـي أنفسكم فتعملوه من الـمعاصي، أو تضمروا إرادته فـي أنفسكم، فتـخفوه، يُعلـمْكم به الله يوم القـيامة، فـيغفر لـمن يشاء، ويعذّب من يشاء.

وأما قول مـجاهد فشبـيه معناه بـمعنى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة.

وقال آخرون مـمن قال: «هذه الآية مـحكمة وهي غير منسوخة» ووافقوا الذين قالوا: «معنى ذلك أن الله عزّ وجلّ أعلـم عبـاده ما هو فـاعل بهم فـيـما أبدوا وأخفوا من أعمالهم»: معناها: أن الله مـحاسب جميع خـلقه بجميع ما أبدوا من سيىء أعمالهم، وجميع ما أسروه، ومعاقبهم علـيه، غير أن عقوبته إياهم علـى ما أخفوه مـما لـم يعملوه ما يحدث لهم فـي الدنـيا من الـمصائب، والأمور التـي يحزنون علـيها ويألـمون منها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }... الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلـم يعملها أرسل الله علـيه من الهمّ والـحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلـم يعملها، فكانت كفـارته.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بـمعصية، أَو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها فـي الدنـيا، يخاف ويحزن ويهتـم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو نـميـله، عن عبـيد، عن الضحاك، قال: قالت عائشة فـي ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه الله فـي الدنـيا، يخاف ويحزن ويشتدّ همه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بـالسوء ولـم يعمل منه شيئاً.

حدثنا الربـيع، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد بن سلـمة، عن علـيّ بن زيد، عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية: { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }، { { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] فقالت: ما سألنـي عنها أحد مذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عائشة، هذه مُتَابَعَةُ الله العبد بـما يُصِيبُه من الـحُمَّى والنكْبَة والشَّوْكَة، حتـى البضاعة يَضَعُها فـي كمّه فـيفقدها فـيفزع لها، فـيجدها فـي ضِبْنِهِ حتـى إن الـمُؤمِنَ لَـيَخْرُجُ من ذنوبه كما يخرج التّبْرُ الأحمر من الكِيرِ" .

وأولـى الأقوال التـي ذكرناها بتأويـل الآية قول من قال: إنها مـحكمة ولـيست بـمنسوخة، وذلك أن النسخ لا يكون فـي حكم إلا ينفـيه بآخر له ناف من كل وجوهه، ولـيس فـي قوله جلّ وعزّ: { { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] نفـي الـحكم الذي أعلـم عبـاده بقوله: { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } لأن الـمـحاسبة لـيست بـموجبة عقوبة، ولا مؤاخذة بـما حوسب علـيه العبد من ذنوبه، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عن الـمـجرمين أنهم حين تُعرض علـيهم كتب أعمالهم يوم القـيامة، يقولون: { { وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] فأخبر أن كتبهم مـحصية علـيهم صغائر أعمالهم وكبـائرها، فلـم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبـائرها بـموجب إحصاؤها علـى أهل الإيـمان بـالله ورسوله وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبـين، لأن الله عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر بـاجتنابهم الكبـائر، فقال فـي تنزيـله: { { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [النساء: 31] فدلّ أن مـحاسبة الله عبـاده الـمؤمنـين بـما هو مـحاسبهم به من الأمور التـي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة، بل مـحاسبته إياهم إن شاء الله علـيها لـيعرّفهم تفضله علـيهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الـخبر الذي:

حدثنـي به أحمد بن الـمقدام، قال: ثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أبـي، عن قتادة، عن صفوان بن مـحرز، عن ابن عمر، عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُدْنِـي اللَّهُ عَبْدَهُ الـمُؤمِنُ يَوْمَ القِـيَامَةِ حَتَّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِسَيِّئَاتِهِ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ، فَـيَقُولُ: سَتَرْتُها فِـي الدُّنْـيَا وأغْفِرُها الـيَوْمَ. ثُمَّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ، فَـيَقُولُ: هاؤمُ اقْرَؤا كِتابِـيَهْ" أو كما قال: "وأمَّا الكَافِرُ، فَـإِنَّهُ يُنَادَى بِهِ عَلـى رُؤوسِ الأشْهادِ" .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبـي عديّ وسعيد وهشام، وحدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، قال: أخبرنا هشام، قالا جميعاً فـي حديثهما، عن قتادة، عن صفوان بن مـحرز، قال: بـينـما نـحن نطوف بـالبـيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل، فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فـي النـجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَدْنُو الـمُؤمِنُ مِنْ رَبِّهِ حتَّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَـيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَـيَقُولُ: رَبّ اغْفِرْ مَرَّتَـيْنِ، حتـى إذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أنْ يَبْلُغَ قَالَ: فَـإِنّـي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَـيْكَ فِـي الدُّنْـيا، وأنا أغْفِرُها لَكَ الـيَوْمَ" ، قال: "فَـيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أوْ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِ. وأمَّا الكُفَّـارُ وَالـمُنَافِقُونَ، فَـيُنَادَى بِهِمْ علـى رُؤوسِ الأشْهادِ: هَؤلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبِهِمْ، ألا لَعْنَةُ اللَّهِ علـى الظَّالِـمِينَ" .

إن الله يفعل بعبده الـمؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتـى يعرّفه تفضله علـيه بعفوه له عنها، فكذلك فعله تعالـى ذكره فـي مـحاسبته إياه بـما أبداه من نفسه، وبـما أخفـاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه علـيه، فـيستره علـيه، وذلك هو الـمغفرة التـي وعد الله عبـاده الـمؤمنـين، فقال: يغفر لـمن يشاء.

فإن قال قائل: فإن قوله: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] ينبىء عن أن جميع الـخـلق غير مؤاخذين إلا بـما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابـين إلا بـما كسبته من خير. قـيـل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.

فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عزّ وجلّ إيانا علـى ما أخفته أنفسنا بقوله: { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } إن كان { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا، من همّ بذنب، أو إرادة لـمعصية، لـم تكتسبه جوارحنا؟ قـيـل له: إن الله جلّ ثناؤه قد وعد الـمؤمنـين أن يعفو لهم عما هو أعظم مـما همّ به أحدهم من الـمعاصي فلـم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبـائرها، وإنـما الوعيد من الله عزّ وجلّ بقوله: { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } علـى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تـخفـي الشكّ فـي الله، والـمرية فـي وحدانـيته، أو فـي نبوّة نبـيه صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، أو فـي الـمعاد والبعث من الـمنافقـين، علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومـجاهد، ومن قال بـمثل قولهما أن تأويـل قوله: { أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } علـى الشكّ والـيقـين. غير أنا نقول إن الـمتوعد بقوله: { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } هو من كان إخفـاء نفسه ما تـخفـيه الشكَّ والـمرية فـي الله، وفـيـما يكون الشك فـيه بـالله كفراً، والـموعود الغفران بقوله: { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } هو الذي أخفـى، وما يخفـيه الهمة بـالتقدّم علـى بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التـي كان جائزاً ابتداء تـحلـيـله وإبـاحته، فحرّمه علـى خـلقه جلّ ثناؤه، أو علـى ترك بعض ما أمر الله بفعله مـما كان جائزاً ابتداء إبـاحة تركه، فأوجب فعله علـى خـلقه. فإن الذي يهمّ بذلك من الـمؤمنـين إذا هو لـم يصحح همه بـما يهمّ به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بـالتقدم علـيه لـم يكن مأخوذاً، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها لَـمْ تُكْتُبْ عَلَـيْهِ" ، فهذا الذي وصفنا، هو الذي يحاسب الله به مؤمنـي عبـاده ثم لا يعاقبهم علـيه.

فأما من كان ما أخفته نفسه شكاً فـي الله وارتـيابـاً فـي نبوّة أنبـيائه، فذلك هو الهالك الـمخـلد فـي النار، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الألـيـم بقوله: { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء }.

فتأويـل الآية إذا: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } أيها الناس، فتظهروه { أَوْ تُخْفُوهْ } فتنطوي علـيه نفوسكم، { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } فـيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فـيغفره له، ويعذّب منافقكم علـى الشكّ الذي انطوت علـيه نفسه فـي وحدانـية خالقه ونبوّة أنبـيائه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: والله عزّ وجلّ علـى العفو عما أخفته نفس هذا الـمؤمن من الهمة بـالـخطيئة، وعلـى عقاب هذا الكافر علـى ما أخفته نفسه من الشكّ فـي توحيد الله عزّ وجلّ، ونبوّة أنبـيائه، ومـجازاة كل واحد منهما علـى كل ما كان منه، وعلـى غير ذلك من الأمور قادرٌ.