التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الـميثاق مفعال، من التوثق بـالـيـمين ونـحوها من الأمور التـي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضاً يا معشر بنـي إسرائيـل إذْ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. كما:

حدثنـي به ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس: { وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ } أي ميثاقكم { لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ }.

قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة فـي قراءة قوله: { لا تَعْبُدُونَ } فبعضهم يقرؤها بـالتاء، وبعضهم يقرؤها بـالـياء، والـمعنى فـي ذلك واحد. وإنـما جازت القراءة بـالـياء والتاء وأن يقال: «لا تعبدون»، و«لا يعبدون» وهم غَيَب لأن أخذ الـميثاق بـمعنى الاستـحلاف، فكما تقول: استـحلفت أخاك لـيقومنّ، فتـخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك، وتقول: استـحلفته لتقومنّ، فتـخبر عنه خبرك عن الـمخاطب لأنك قد كنت خاطبته بذلك، فـيكون ذلك صحيحاً جائزاً، فكذلك قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } و«لا يعبدون». من قرأ ذلك بـالتاء فمعنى الـخطاب إذْ كان الـخطاب قد كان بذلك، ومن قرأ بـالـياء فلأنهم ما كانوا مخاطبـين بذلك فـي وقت الـخبر عنهم. وأما رفع لا تعبدون فبـالتاء التـي فـي تعبدون، ولا ينصب ب«أن» التـي كانت تصلـح أن تدخـل مع: { لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } لأنها إذا صلـح دخولها علـى فعل فحذفت ولـم تدخـل كان وجه الكلام فـيه الرفع كما قال جل ثناؤه: { { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] فرفع «أعبدُ» إذ لـم تدخـل فـيها أن بـالألف الدالة علـى معنى الاستقبـال. وكما قال الشاعر:

ألاَ أيُّهذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى وأنْ أشْهَدَ اللّذَّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْـلِدِي

فرفع «أحضر» وإن كان يصلـح دخول «أن» فـيها، إذ حذفت بـالألف التـي تأتـي الاستقبـال. وإنـما صلـح حذف «أن» من قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ } لدلالة ما ظهر من الكلام علـيها، فـاكتفـى بدلالة الظاهر علـيها منها.

وقد كان بعض نـحويـي البصرة يقول: معنى قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } حكاية، كأنك قلت: استـحلفناهم لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون، وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا فـي ذلك.

وبنـحو الذي قلنا فـي قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ } تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: أخذ مواثـيقهم أن يخـلصوا له وأن لا يعبدوا غيره.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاق بنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ الله } قال: أخذنا ميثاقهم أن يخـلصوا لله ولا يعبدوا غيره.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنـي إسْرَائيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللّهَ } قال: الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي الـمائدة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْساناً }.

وقوله جل ثناؤه: { وبـالْوَالِدَيْنِ إحْساناً } عطف علـى موضع «أن» الـمـحذوفة فـي { لا تعبدون إلا الله }. فكان معنى الكلام: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله وبـالوالدين إحساناً. فرفع «لا تعبدون» لـما حذف «أن»، ثم عطف بـالوالدين علـى موضعها، كما قال الشاعر:

مُعاوِيَ إنّنا بَشَر فأسْجِحْ فَلَسْنا بـالـجبـال وَلا الـحَدِيدا

فنصب «الـحديد» علـى العطف به علـى موضع الـجبـال لأنها لو لـم تكن فـيها بـاء خافضة كانت نصبـاً، فعطف بـالـحديد علـى معنى الـجبـال لا علـى لفظها، فكذلك ما وصفت من قوله: { وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْساناً }. وأما الأحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: { وَبِـالْوَالِدَيْنِ } إذْ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام لو أظهر الـمـحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحساناً. فـاكتفـى بقوله: { وَبـالْوَالِدَيْنِ } من أن يقال: وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحساناً، إذْ كان مفهوماً أن ذلك معناه بـما ظهر من الكلام.

وقد زعم بعض أهل العربـية فـي ذلك أن معناه: وبـالوالدين فأحسنوا إحساناً فجعل «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الإحسان مقدمة علـيه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بـالوالدين إحساناً. فزعموا أن «البـاء» التـي فـي «الوالدين» من صلة الـمـحذوف، أعنـي «أَحْسِنوا»، فجعلوا ذلك من كلامين. وإنـما يصرف الكلام إلـى ما ادعوا من ذلك إذا لـم يوجد لاتساق الكلام علـى كلام واحد وجه، فأما وللكلام وجه مفهوم علـى اتساقه علـى كلام واحد فلا وجه لصرفه إلـى كلامين. وأخرى: أن القول فـي ذلك لو كان علـى ما قالوا لقـيـل: «وإلـى الوالدين إحساناً» لأنه إنـما يقال: أحسن فلان إلـى والديه، ولا يقال: أحسن بوالديه، إلاّ علـى استكراه للكلام. ولكن القول فـيه ما قلنا، وهو: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بكذا وبـالوالدين إحساناً، علـى ما بـينا قبل. فـيكون «الإحسان» حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بـينا فـيـما مضى من نظائره.

فإن قال قائل: وما ذلك الإحسان الذي أخذ علـيهم وبـالوالدين الـميثاق؟ قـيـل: نظير ما فرض الله علـى أمتنا لهما من فعل الـمعروف لهما والقول الـجميـل، وخفض جناح الذل رحمة بهما والتـحنن علـيهما، والرأفة بهما والدعاء بـالـخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التـي ندب الله عبـاده أن يفعلوا بهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَذي القُرْبَى وَالـيتَامَى وَالـمسَاكين }.

يعنـي بقوله: { وَذي القرْبَى } وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمة. والقربى مصدر علـى تقدير «فُعْلَـى» من قولك: قربت منـي رحم فلان قرابة وقربى وقربـا بـمعنى واحد. وأما الـيتامى فهم جمع يتـيـم، مثل أسير وأَسارى ويدخـل فـي الـيتامى الذكور منهم والإناث. ومعنى ذلك: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد وبـالوالدين إحساناً وبذي القربى، أن تصلوا رَحِمَه، وتعرفوا حقه، وبـالـيتامى: أن تتعطفوا علـيهم بـالرحمة والرأفة، وبـالـمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التـي ألزمها الله أموالكم. والـمسكين: هو الـمتـخشع الـمتذلل من الفـاقة والـحاجة، وهو «مِفْعيـل» من الـمسكنة، والـمسكنة هي ذلّ الـحاجة والفـاقة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَقُولُوا للنّاس حُسُناً }.

إن قال قائل: كيف قـيـل: { وقُولُوا للنّاس حُسْناً } فأخرج الكلام أمراً ولـما يتقدمه أمرٌ، بل الكلام جار من أول الآية مـجرى الـخبر؟ قـيـل: إن الكلام وإن كان قد جرى فـي أول الآية مـجرى الـخبر فإنه مـما يحسن فـي موضعه الـخطاب بـالأمر والنهي، فلو كان مكان: «لا تعبدون إلا الله» «لا تعبدوا إلا الله» علـى وجه النهي من الله لهم عن عبـادة غيره كان حسناً صوابـاً وقد ذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب. وإنـما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الـميثاق قول، فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك: وإذْ قلنا لبنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه فـي موضع آخر: { وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ ورَفَعْنا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا ما آتـيْناكُمْ بِقُوَّة }. فلـما كان حسناً وضع الأمر والنهي فـي موضع: { لا تعبدون إلا الله }، عطف بقوله: { وَقُولُوا للنّاس حُسْناً } علـى موضع { لا تعبدون }، وإن كان مخالفـا كل واحد منهما معناه معنى ما فـيه، لـما وصفنا من جواز وضع الـخطاب بـالأمر والنهي موضع لا تعبدون فكأنه قـيـل: وإذا أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا الله، وقولوا للناس حسناً. وهو نظير ما قدمنا البـيان عنه من أن العرب تبتدىء الكلام أحياناً علـى وجه الـخبر عن الغائب فـي موضع الـحكايات لـما أخبرت عنه، ثم تعود إلـى الـخبر علـى وجه الـخطاب، وتبتدىء أحيانا علـى وجه الـخطاب ثم تعود إلـى الإخبـار علـى وجه الـخبر عن الغائب لـما فـي الـحكاية من الـمعنـيـين كما قال الشاعر:

أَسِيئي بنا أوْ أحْسِنـي لا مَلُومَةً لَديْنا وَلا مَقْلِـيّةً إنْ تَقَلَّتِ

يعنـي تقلّـيت، وأمّا «الـحسن» فإن القراءة اختلفت فـي قراءته، فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم: «وَقُولُوا للنّاس حَسَناً» بفتـح الـحاء والسين. وقرأته عامة قرّاء الـمدينة: { حُسْناً } بضم الـحاء وتسكين السين. وقد رُوي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: «وَقُولُوا للنّاس حُسْنَى» علـى مثال «فُعْلَـى».

واختلف أهل العربـية فـي فرق ما بـين معنى قوله: حُسْنا، وحَسَنا. فقال بعض البصريـين: هو علـى أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـالـحَسَنِ الـحُسْنِ، وكلاهما لغة، كما يقال: البُخْـل والبَخَـل. وإما أن يكون جعل الـحُسْنَ هو الـحَسَن فـي التشبـيه، وذلك أن الـحُسْنَ مصدر، والـحَسَنُ هو الشيء الـحسن، ويكون ذلك حينئذ كقولك: «إنـما أنت أَكْلٌ وشُرْب»، وكما قال الشاعر:

وخَيْـلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْـلٍ تَـحِيّةُ بَـيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

فجعل التـحية ضربـاً.

وقال آخر: بل «الـحُسْن» هو الاسم العام الـجامع جميع معانـي الـحسن، «والـحَسَن» هو البعض من معانـي الـحُسْن، قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بـالوالدين: وَوَصّيْنا الإنْسانَ بوَالِدَيْهِ حُسْناً يعنـي بذلك أنه وصاه فـيهما بجميع معانـي الـحسن، وأمر فـي سائر الناس ببعض الذي أمره به فـي والديه فقال: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } يعنـي بذلك بعض معانـي الـحُسْن. والذي قاله هذا القائل فـي معنى «الـحُسْن» بضم الـحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما «الـحَسَن» فإنه صفة وقعت لـما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فـالصواب من القراءة فـي قوله: «وَقُولُوا للنّاسِ حَسَناً» لأن القوم إنـما أمروا فـي هذا العهد الذي قـيـل لهم: وقولوا للناس بـاستعمال الـحَسَن من القول دون سائر معانـي الـحسن، الذي يكون بغير القول، وذلك نعت لـخاص من معانـي الـحُسْن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتـح الـحاء والسين، علـى قراءته بضم الـحاء وسكون السين.

وأما الذي قرأ ذلك: «وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنَى» فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام، وكفـى شاهدا علـى خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لـم يكن علـى خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من الـمعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلـم بفُعْلـى وأَفْعل إلا بـالألف واللام أو بـالإضافة، لا يقال: جاءنـي أحسن حتـى يقولوا الأحسن، ولا يقال أجمل حتـى يقولوا الأجمل وذلك أن الأفعل والفُعْلَـى لا يكادان يوجدان صفة إلا لـمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن، وبل أختك الـحسنى، وغير جائز أن يقال: امرأة حُسْنى، ورجل أحسن.

وأما تأويـل القول الـحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بنـي إسرائيـل فـي هذه الآية أن يقولوه للناس، فهو ما:

حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } أمرهم أيضا بعد هذا الـخـلق أن يقولوا للناس حسناً: أن يأمروا بلا إله إلا الله من لـم يقلها ورغب عنها حتـى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه.

وقال الـحسن أيضا: لـين القول من الأدب الـحسن الـجميـل، والـخـلق الكريـم، وهو مـما ارتضاه الله وأحبه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } قال: قولوا للناس معروفـا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } قال: صدقا فـي شأن مـحمد صلى الله عليه وسلم.

وحدثت عن يزيد بن هارون، قال: سمعت سفـيان الثوري، يقول فـي قوله: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا } قال: مروهم بـالـمعروف، وانهوهم عن الـمنكر.

حدثنـي هارون بن إدريس الأصم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، قال: ثنا عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح، عن قول الله جل ثناؤه: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } قال: من لقـيت من الناس فقل له حسناً من القول. قال: وسألت أبـا جعفر، فقال مثل ذلك.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا القاسم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن أبـي جعفر وعطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: { وَقُولُوا للنّاسِ حُسْناً } قال: للناس كلهم.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء مثله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وأقِـيـمُوا الصَّلاةَ }.

يعنـي بقوله: { وأقِـيـمُو الصَّلاةَ } أدّوها بحقوقها الواجبة علـيكم فـيها. كما:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود، قال: { وأقِـيـمُوا الصَّلاة } هذه، وإقامة الصلاة تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَآتُوا الزَّكاة }. قد بـينا فـيـما مضى قبلُ معنى الزكاة وما أصلها. وأما الزكاة التـي كان الله أمر بها بنـي إسرائيـل الذين ذكر أمرهم فـي هذه الآية، فهي ما:

حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { وآتُوا الزَّكاةَ } قال: إيتاء الزكاة ما كان الله فرض علـيهم فـي أموالهم من الزكاة، وهي سنّة كانت لهم غير سنة مـحمد صلى الله عليه وسلم كانت زكاة أموالهم قربـاناً تهبط إلـيه نار فتـحملها، فكان ذلك تَقَبُّله، ومن لـم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل. وكان الذي قُرّب من مكسب لا يحلّ من ظلـم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمر الله به وبـينه له.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس: { وَآتُوا الزَّكاةَ } يعنـي بـالزكاة: طاعة الله والإخلاص.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمَّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاَّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ }. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بنـي إسرائيـل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم علـى الوفـاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلـى الآبـاء والأمهات، ويَصِلُوا الأرحام، ويتعطفوا علـى الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل الـمسكنة إلـيهم، ويأمروا عبـاد الله بـما أمرهم الله به ويحثوهم علـى طاعته، ويقـيـموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره فـي ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم فوفـى لله بعهده وميثاقه. كما:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس، قال: لـما فرض الله جل وعزّ علـيهم يعنـي علـى هؤلاء الذين وصف الله أمرهم فـي كتابه من بنـي إسرائيـل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالاً وكراهية، وطلبوا ما خفّ علـيهم إلا قلـيلاً منهم، وهم الذين استثنى الله فقال: { ثُمَّ تَوَلَّـيْتُـمْ } يقول: أعرضتـم عن طاعتـي { إلاَّ قَلِـيلاً منكمْ } قال: القلـيـل الذين اخترتهم لطاعتـي، وسيحلّ عقابـي بـمن تولّـى وأعرض عنها يقول: تركها استـخفـافـاً بها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة، عن ابن عبـاس: { ثُمَّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاَّ قَلـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ } أي تركتـم ذلك كله.

وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: { وأنتُـمْ مُعْرِضُونَ } الـيهود الذين كانوا علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم كأنه ذهب إلـى أن معنى الكلام: { ثُمَّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاَّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ } ثم تولـى سلفكم إلا قلـيلاً منهم، ولكنه جعل خطابـاً لبقايا نسلهم علـى ما ذكرناه فـيـما مضى قبل. ثم قال: وأنتـم يا معشر بقاياهم مُعْرضون أيضا عن الـميثاق الذي أخذ علـيكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم.

وقال آخرون: بل قوله: { ثُمَّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاَّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرضُونَ } خطاب لـمن كان بـين ظهرانـي مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل، وذمٌّ لهم بنقضهم الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي التوراة وتبديـلهم أمر الله وركوبهم معاصيه.