قرأ زيد بن ثابت: «ينشركم» ومثله قوله:
{ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلأرْضِ } [الجمعة: 10]، { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون } َ } [الروم: 20] فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيّزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء. فإن قلت: ما جواب «إذا»؟ قلت: جاءتها. فإن قلت: فدعوا؟ قلت: بدل من ظنوا؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: «في الفلكي» بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلاّ فيه. والضمير في { جرين } للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخي فعل. وفي قراءة أمّ الدرداء: «للفلك» أيضاً؛ لأنّ الفلكي يدلّ عليه { جَاءتْهَا } جاءت الريح الطيبة، أي تلقتها. وقيل: الضمير للفلك { من كُلّ مَّكَانَ } من جميع أمكنة الموج { أُحِيطَ بِهِمْ } أي أهلكواجعل إحاطة العدوّ بالحي مثلاً في الهلاك { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } من غير إشراك به؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول. أو لأنّ { دَعَوُاْ } من جملة القول: { يَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ } يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك: بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت: فما معنى قوله: { بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قرىء: «متاع الحياة الدنيا»، بالنصب: فإن قلت: ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو { بَغْيُكُمْ } و { عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } صلته، كقوله: { فبغى عَلَيْهِمْ } ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لابقاء لها وإذا نصبت { فَعَلَىَّ أَنفُسَكُـمْ } خبر غير صلة معناه إنما بغيكم بال على أنفسكم، و { متاع الحياة الدنيا } في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(507)
"لا تمكر ولا تعن ماكراً، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً" وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام: (508)
"أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة" ، وروي: (509)
"ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين" وعن ابن عباس رضي الله عنه: (510) لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَة فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَل لانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى: { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ }.