التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ
٥٩
وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٦٠
-يونس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان: الأول: أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة. وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: " إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى، أو تعلمون أنه حكم حكم الله به " والأول طريق باطل بالاتفاق، فلم يبق إلا الثاني، ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة، ولما بطل هذا، ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم، وحاصل الكلام أن حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة، يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول.

الطريق الثاني: في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام، لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة، مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد، والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم، وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب.

المسألة الثانية: المراد بالشيء الذي جعلوه حراماً ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضاً قوله تعالى: { { وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } [الأنعام: 138] إلى قوله: { { وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا } [الأنعام: 139] وأيضاً قوله تعالى: { { ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ مّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } [الأنعام: 143] والدليل عليه أن قوله: { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا } إشارة إلى أمر تقدم منهم، ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا، فوجب توجه هذا الكلام إليه، ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: { قُلِ ٱللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } وهذه القسمة صحيحة، لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى، فهو المراد بقوله: { ٱللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ } وإن كانت ليست من الله. فهو المراد بقوله: { أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ }.

ثم قال تعالى: { وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله. وقرأ عيسى بن عمر { وَمَا ظَنُّ } على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي.

ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله.

المسألة الثالثة: (ما) في قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ } فيه وجهان: أحدهما: بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلاْنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } [الزمر: 6] وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً.