التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
-يونس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى، ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام. فالأول: منهما قوله: { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } واعلم أن { مَا } ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله، قال الأخفش: وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وفيه وجهان: قال ابن عباس: وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن: في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. والثاني: منهما قوله تعالى: { وَمَا نتلوا منه من قرآن } واختلفوا في أن الضمير في قوله: { مِنْهُ } إلى ماذا يعود؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، وعلى هذا التقدير، فكان هذا داخلاً تحت قوله: { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته، كما في قوله تعالى: { { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } [البقرة: 98] وكما في قوله: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرٰهِيمَ } [الأحزاب: 7] والثاني: أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير: وما تتلو من القرآن من قرآن، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر، يدل على التعظيم. الثالث: أن يكون التقدير: وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله. وأقول: قوله: { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ } أمران مخصوصان بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة. والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً، ثم عمم الخطاب مع الكل، هو أن قوله: { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ } وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب. والدليل عليه قوله تعالى: { { يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء } [الطلاق: 1] ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال: { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين.

ثم قال تعالى: { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء، وعالم بكل شيء، أما على أصول أهل السنة والجماعة، فالأمر فيه ظاهر، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى. فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه. والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به، فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات، وأما على أصول المعتزلة، فقد قالوا: إنه تعالى حي وكل من كان حياً، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات، والموجب لتلك العالمية، هو ذاته سبحانه. فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات.

أما قوله تعالى: { إِذْ تفيضون فِيهِ } فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم، فتفرقوا.

فإن قيل: { إِذْ } ههنا بمعنى حين، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه، وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل.

قلنا: هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبارة عن علمه، وهذا ممنوع، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه، وأما العلم، فلا يمتنع تقدمه على الشيء، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها. واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد، فقال: { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كتاب مبين } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أصل العزوب من البعد. يقال: كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل، والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد.

المسألة الثانية: قرأ الكسائي { وَمَا يَعْزُبُ } بكسر الزاي، والباقون بالضم، وفيه لغتان: عزب يعزب، وعزب يعزب.

المسألة الثالثة: قوله: { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي وزن ذرة، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل، والمعنى: ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة، وهي تكون خفيفة الوزن جداً، وقوله: { فِي ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } فالمعنى ظاهر.

فإن قيل: لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ: { { عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلاْرْضِ } [سبأ: 3].

قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع.

ثم قال: { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } وفيه قراءتان قرأ حمزة { وَلاَ أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ } بالرفع فيهما، والباقون بالنصب.

واعلم أن قوله: { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ { مِثْقَالَ } عند دخول كلمة { مِنْ } عليه مجرور بحسب الظاهر، ولكنه مرفوع في المعنى، فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف، فكان مفتوحاً / وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعاً، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذا قوله: { { مَالَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 59] وغيره وقال الشاعر:

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

هذا ما ذكره النحويون، قال صاحب «الكشاف»: لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب: وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل.

وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين:

الوجه الأول: أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.

وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول، مثل: الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله: { وَمَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها، والغرض منه الرد على من يقول: إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، وهو المراد من قوله: { { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29].

والوجه الثاني: في الجواب أن نجعل كلمة { إِلا } في قوله: { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب «النظم» عنه جواباً آخر فقال: قوله: { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر، وهو قوله: { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } أي وهو أيضاً في كتاب مبين. قال: والعرب تضع «إلا» موضع «واو النسق» كثيراً على معنى الابتداء، كقوله تعالى: { { لاَ يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ } [النمل: 10] يعني ومن ظلم. وقوله: { { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 150] يعني والذين ظلموا، وهذا الوجه في غاية التعسف.

وأجاب صاحب «الكشاف»: بوجه رابع فقال: الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله: { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } على قوله: { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل، لكنا لا نقول ذلك، بل نقول: الوجه في القراءة بالنصب في قوله: { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ } الحمل على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء، وخبره قوله: { فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } وهذا الوجه اختيار الزجاج.