التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ
٤
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٥
-الحجر

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى: { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَـٰبٌ مَّعْلُومٌ } في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلاً، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخراً وذلك نهاية في الزجر والتحذير.

المسألة الثانية: قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم، وقال آخرون: المراد بهذا الهلاك الموت. قال القاضي: والأقرب ما تقدم، لأنه في الزجر أبلغ، فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر، فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون: المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت، لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكاً، فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معاً.

المسألة الثالثة: قال الفراء: لو لم تكن الواو مذكورة في قوله: { وَلَهَا كِتَـٰبٌ } كان صواباً كما في آية أخرى وهي قوله: { { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [الشعراء: 208] وهو كما تقول: ما رأيت أحداً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب.

أما قوله: { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـئخِرُونَ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: من في قوله: { مِنْ أُمَّةٍ } زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد، وقال آخرون: إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد.

المسألة الثانية: قال صاحب «النظم» معنى سبق إذا كان واقعاً على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمراً، أي جازه وخلفه وراءه، ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعاً على زمان كان بالعكس في ذلك، كقولك: سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله: { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـئخِرُونَ } معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه، والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع، لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال، وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه، وإذا كان كذلك، فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص، وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه، ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعاً كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعاً.

إذا عرفت هذا فنقول: هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما.

فإن قالوا: هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته. أما إذا قلنا: المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك.

قلنا: قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام، وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح، فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل، وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل، وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى، وحينئذ لا يعود الإلزام.

المسألة الثالثة: دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله، وأن من قال: يجوز أن يموت قبل أجله فمخطىء.

فإن قالوا: هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله: { وَمَآ أَهْلَكْنَا } على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.

قلنا: قوله: { وَمَآ أَهْلَكْنَا } إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل، فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول: إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت، فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك، والله أعلم.