التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام، فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال: { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: { إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ }.

وجوابه من وجوه: أحدها: قال صاحب «النظم»: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وثانيها: وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح.

إذا عرفت هذا فالقول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول، ولهذا المعنى فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال، فقوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح. وثالثها: أن قوله: { إِلـٰهَيْنِ } لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما. فلما قال: { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } ثبت أن قوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ } نهي عن إثبات التعدد فقط. ورابعها: أن الأثنينية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه: الأول: أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجباً لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة، فكل واحد منهما مركب من جزأين، وكل مركب فهو ممكن، فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود. والثاني: أنا لو فرضنا إلهين وحاول أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني، لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلاً ولا التفاوت أصلاً، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني، وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال، أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما ألبتة. فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً. الثالث: أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف، وإن لم يقدر فهو ضعيف، والرابع: وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف، وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف، وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف. فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان. فقوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثنينية. والله أعلم.

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } والمعنى: أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد.

ثم قال بعده: { فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ } وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور، والتقدير: أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور، ويقول: { فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ } وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله: { فَإيَّـٰيَ فَٱرْهَبُونِ } يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد، وأما ما سواه فمحدث، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات.

ثم قال بعده: { وَلَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وهذا حق، لأنه لما كان الإله واحداً، والواجب لذاته واحداً، كان كل ما سواه حاصلاً بتخليقه وتكوينه وإيجاده، فثبت بهذا البرهان صحة قوله: { وَلَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة، لا لغرض الطاعة، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب.

ثم قال بعده: { وَلَهُ ٱلدّينُ وَاصِبًا } الدين ههنا الطاعة، والواصب الدائم. يقال: وصب الشيء يصب وصوباً إذا دام، قال تعالى: { { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [الصافات: 9] ويقال: واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها. ويقال للعليل واصب، ليكون ذلك المرض لازماً له. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبداً.

واعلم أن قوله: { واصباً } حال، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. وأقول: الدين قد يعني به الانقياد. يقال: يا من دانت له الرقاب أي انقادت. فقوله: { وله الدين واصباً } أي انقياد كل ما سواه له لازم أبداً، لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجاً إلى السبب في طرفي الوجود والعدم والماهيات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتياً، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتياً، ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتياً فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى أتصافاً دائماً واجباً لازماً ممتنع التغير. وأقول: في الآية دقيقة أخرى، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح، واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب؟ قال المحققون: إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الإمكان والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلاً للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها.

إذا عرفت هذا فقوله: { وله ما في السموات والأرض } معناه: أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص، وقوله: { وله الدين واصباً } معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائماً أبداً، وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة.

ثم قال تعالى: { أفغير الله تتقون } والمعنى: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضاً في وقت دوامه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى؟ فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب: { أفغير الله تتقون }.

ثم قال: { وما بكم من نعمة فمن الله } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله، بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى، لأن الشكر إنما يلزم على النعمة، وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله: { وما بكم من نعمة فمن الله } فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحداً إلا الله وأن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى.

المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الإيمان نعمة، وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله: { وما بكم من نعمة فمن الله } ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا: إن الإيمان نعمة، لأن المسلمين مطبقون على قولهم: الحمد لله على نعمة الإيمان، وأيضاً فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان، فثبت أنا لإيمان نعمة.

وإذا ثبت هذا فنقول: وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } وهذه اللفظة تفيد العموم، وأيضاً مما يدل علىأن كل نعمة فهي من الله، لأن كل ما كان موجوداً فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى، والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان واجباً لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكناً لذاته عاد التقسيم الأول فيه، ولا يذهب إلى التسلسل، بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذته، فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى.

المسألة الثالثة: النعم إما دينية وإما دنيوية، أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية، وإما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال: { { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34] والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مراراً فلا نعيدها.

المسالة الرابعة: إنما دخلت الفاء في قوله: { فمن الله } لأن الباء في قوله: { بكم } متصلة بفعل مضمر، والمعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله.

ثم قال تعالى: { ثم إِذا مسكم الضر } قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة: { فإليه تجأرون } أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال: جأر يجأر جؤاراً وهو الصوت الشديد كصوت البقرة، وقال الأعشى يصف راهباً:

يراوح من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا

والمعنى: أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى، ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر، أي لا يستغيث أحداً إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو، فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة، ثم قال بعده: { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره، وهذا جهل وضلال، لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد، ولا مستغاث إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد، فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى، وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عظيم وضلال كامل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: { { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [العنكبوت: 65].

ثم قال تعالى: لآليكفروا بما آتيناهم } وفي هذه اللام وجهان: الأول: أنها لام كي والمعنى أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم. وغرضهم من ذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى، ألا نرى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع، فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني، وهذا أكثر أحوال الخلق. وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازيرحمه الله : في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة أثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة، وهذه عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع، فلما سكتت وطاب الهواء، وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة، وكانت هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان.

والقول الثاني: أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى: { { فاتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص: 8] يعني أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.

واعلم أن المراد بقوله: { بما آتيناهم } فيه قولان: الأول: أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه. والثاني: قال بعضهم: المراد به القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع.

واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال: { فتمتعوا } وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد، كقوله: { { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [الكهف: 29] وقوله: { { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } [الإسراء: 107].

ثم قال تعالى: { فسوف تعلمون } أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم.