التفاسير

< >
عرض

وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً
٤
فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
-الإسراء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم، بين أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد فقال: { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: { { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } [فصلت: 12] وقول الشاعر:

وعليهما مسرودتان قضاهما داود........

فقوله: { وَقَضَيْنَا } أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم. ولفظ { إِلَىٰ } صلة للإيحاء، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا. وقوله: { لَتُفْسِدُنَّ } يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله: { فِى ٱلأَرْضِ } يعني أرض مصر وقوله: { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً، لأنه يقال لكل متجبر: قد علا وتعظم، ثم قال: { فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـٰهُمَا } يعني أولى المرتين: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمعنى: أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى: { { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [البقرة: 177] ومعنى { بعثنا عليكم } أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم؟ قيل: إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ }.

والقول الثاني: إن المراد من قوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا } أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ } هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.

والقول الثالث: إن قوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا } هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.

ثم قال تعالى: { فَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدّيَارِ } قال الليث: الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة: طلبوا من فيها. وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا. وقال الزجاج: طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه. قال الواحدي: الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.

ثم قال تعالى: { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ، ثم قال تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ } أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم: { وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله: { { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ } [التوبة: 122] وقوله: { { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا } [التوبة: 41].

المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: { وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه. ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال: { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً }.

إذا ثبت هذا فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحق جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً، فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا: إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.

الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة. ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله: { ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.

أجاب الجبائي عنه من وجهين: الأول: المراد من { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر. والثاني: أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم. وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.

واعلم أن الجواب الأول ضعيف؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى. والجواب الثاني أيضاً ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه، والله أعلم.