التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولاً وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانياً، وقبل الخوض في شرح تلكم الدلائل لا بد من بيان مسائل:

المسألة الأولى: وهي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره؟ فقال عالم من الناس: الخلق هو المخلوق. واحتجوا عليه بالآية والمعقول، أما الآية فهي هذه الآية، وذلك لأنه تعالى قال: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } إلى قول: { لأَيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق، وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور. أحدها: أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، فهذا الإخراج لو كان أمراً مغايراً للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديماً أو حديثاً، فإن كان قديماً فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال، وإن كان محدثاً فلا بد له أيضاً من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل. وثانيها: أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجاً للأشياء من عدمها إلى وجودها، ثم في الأزل هل أحدث أمراً أو لم يحدث؟ فإن أحدث أمراً فذلك الأمر الحادث هو المخلوق، وإن لم يحدث أمراً فالله تعالى قط لم يخلق شيئاً. وثالثها: أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى، وحصول الأثر إما في الحال أو في الإستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادراً مختاراً بل ملجأ مضطراً إلى ذلك التأثير فيكون علة موجَبة وذلك كفر.

واحتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه. أولها: أن قالوا: لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء، والخالق هو الموصوف بالخلق، فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى موصوفاً بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات، وذلك لا يقوله عاقل. وثانيها: أنا إذا رأينا حادثاً حدث بعد أن لم يكن قلنا: لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا: إنه حق وصواب، ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض، فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه، علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه، فالخلق غير المخلوق. وثالثها: أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور، ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية، فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب. ورابعها: أن النحاة قالوا: إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به، وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم. وخامسها: أنه يصح أن يقال: خلق السواد وخلق البياض وخلق الجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة.

المسألة الثانية: قال أبو مسلمرحمه الله : أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسماً لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صواباً قال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2] ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير.

المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقاً ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض.

المسألة الرابعة: ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية: عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } [البقرة: 163] فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وعن سعيد بن مسروق قال: سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الأيات فحدثوهم بالعصا وباليد البيضاء وسألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنزداد يقيناً وقوة على عدونا، فسأل ربه ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ولكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فقال عليه السلام: "ذرني وقومي أدعوهم يوماً فيوماً" فأنزل الله تعالى هذه الآية مبيناً لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهباً ليزدادوا يقيناً فخلق السموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم.

واعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام:

القسم الأول: في تفصيل القول في كل واحد منها، فالنوع الأول من الدلائل: الاستدلال بأحوال السموات وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في تفسير قوله تعالى: { { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء } [البقرة: 22] ولنذكر ههنا نمطاً آخر من الكلام:

روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرؤنه فقال: أفسر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ } [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنيانها، ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته فنقول: الكلام في أحوال السموات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول:

الفصل الأول

في ترتيب الأفلاك

قالوا: أقر بها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم.

واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثاً:

البحث الأول: ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه. الأول: السير، وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد،. ويتميز السائر عن المستور بلونه الغالب، كصفرة عطارد، وبياض الزهرة وحمرة المريخ، ودرية المشتري، وكمودة زحل، ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة، وكثيراً من الثوابت في طريقه في ممر البروج، وكوكب عطارد يكسف الزهرة، والزهرة تكسف المريخ وعلى هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به، لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها، لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس، فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس. الثاني: اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وأما في حق الشمس فقليل جداً، فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين، وهذا الطريق بين جداً لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب، وشاهده على الوجه الذي حكيناه، فأما من لم يمارسه، فإنه يكون مقلداً فيه، لا سيما وأن أبا الريحان وهو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر. الثالث: قال بطليموس: إن زحل والمشتري والمريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد، وأما عطارد والزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد التسديس فضلاً عن سائر الأبعاد، فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين، وهذا الدليل ضعيف، فإنه منقوض بالقمر، فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد، مع أنه تحت الكل.

البحث الثاني: في أعداد الأفلاك، قالوا إنها تسعة فقط، والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها، فأما ما عداها، فلما لم يدل الرصد عليه، لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها، وذكر ابن سينا في الشفاء: أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة، أو كرات منطبق بعضها على بعض، وأقول: هذا الإحتمال واقع، لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال: إن حركاتها متساوية، وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة، والمقدمتان ضعيفتان.

أما المقدمة الأولى: فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك، لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة، والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة، لا شك أن حصة كل يوم، بل كل سنة، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً، وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت.

وأما المقدمة الثانية: وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية، فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد، بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات، لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه، فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا، وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل.

ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت، وتحت الفلك الأعظم، واحتجوا من وجوه. الأول: أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار، وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم، فإن بطليموس وجده. (كج نا) ثم وجد في زمان المأمون (كج له) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة، وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل، وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل، ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً، وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب. وثانيها: أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات، حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة.

ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين. أحدهما: قول من يجعل أوج الشمس متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج، فيختلف زمان سير الشمس من أجله. وثانيهما: قول أهل الهند والصين وبابل، وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام: أن السبب فيه انتقال فلك البروج، وارتفاع قطبيه وانحطاطه، وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي، وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً، وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات، وقالوا: إن ابتداء الحركة من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها: أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً، وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء، فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه، وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه.

البحث الثالث: احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة، فقالوا: شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت، وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك، وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة، ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة، يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب، ثم قالوا: إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة، لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت، والكاسف تحت المكسوف، فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت.

وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه. أحدها: أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية، وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك، ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك. وثانيها: سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة، ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت، فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة، فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت. وثالثها: هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل، والأخرى دون كرة القمر، وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات، فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها، فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل، أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي.

البحث الرابع: زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة، وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب.

وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس، وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة، وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى، واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية.

واعلم أن هذا أيضاً ضعيف، فلم لا يجوز أن يقال: إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة، والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية، فهذا الاحتمال واقع، وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله، ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان. الأول: وهو برهاني، أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلى خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه، فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين، والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال، وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية، وهم لا يرضون بذلك. الثاني: أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم، ونهاية السكون حاصلة للأرض، والأقرب إلى العقول أن يقال: كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة، وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة، ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه، فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل، وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة، ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور، وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة، فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة، فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة، فلا جرم يتمم دوره في كل شهر، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك، فلا جرم كانت في نهاية السكون، فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها.

الفصل الثاني

في معرفة الأفلاك

القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين. إحداهما: أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة، وأنها لا تبطىء مرة وتسرع أخرى، وليس لها رجوع عن متوجهاتها. والثانية: أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك، ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا: الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون، فإن كان مركزه مركز الأرض، فإما أن يكون الكوكب مركوزاً في ثخنه أو مركوزاً في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك، فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض، وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك، أو حركة الكوكب، وقد فرضنا أنهما لا يوجدان ألبتة، فبقي القسمان الآخران. أحدهما: أن يكون الكوكب مركوزاً في جرم كري مستدير الحركة، مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض، وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير، فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والإستقامة، وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك الميحط بالأرض ليس مركزه موافقاً لمركز الأرض، فهو الفلك الخارج المركز، ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف، وفي نصفه الآخر أقل من النصف، فلا جرم يحصل بسببه: القرب والبعد من الأرض، وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر، فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها، وسرعتها وبطئها، وقربها وبعدها، من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين، أعني التدوير، والفلك الخارج المركز.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك، فقالوا: هذه الأفلاك التسعة، منها ما هو كرة واحدة، وهو الفلك الأعظم، وفلك الثوابت، ومنها ما ينقسم إلى كرتين، وهو فلك الشمس، وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم، بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج، وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل، ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض، وهو البعد الأقرب منه، وهما في الحقيقة فلك واحد، منفصل عنه فلك آخر، إلا أنه يقال: فلكان، توسعا، ويسمى المنفصل عنه: الفلك الممثل، والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج، وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه، ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر، وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة، فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس، وفلكاً آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى: فلك التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز: الفلك الحامل، ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر، أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجاً عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل، ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة، وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة، وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس، فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها.

الفصل الثالث

في مقادير الحركات

قال الجمهور: إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم، والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى: الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي، والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب، وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى، وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج، وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة، وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب. أحدها: كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة. وثانيها: السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها. وثالثها: عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير. ورابعها: أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين. وخامسها: الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب.

وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا: زحل (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزهرة (نط ج) عطارد (نط ح) والقمر (يج يج مو) وتسمى حركة المركز، وحركة الوسط، وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل (نرح) المشتري (ند ط) المريخ (كرمب) الزهرة (لونط) عطارد (ج وكد) القمر (يج ج ند) وتسمى: الحركة الخاصة، وحركة الاختلاف وهي حركات مراكز الكواكب. واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة. أحدها: أنه يحصل للقمر مثلاً أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة. الأول: أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب، وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب. الثاني: أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض. الثالث: أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض. الرابع: أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض، ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان. وثانيها: أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطاً ما، فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبداً تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل: إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارناً للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلاً لها، وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبداً يكون مقارناً للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة، والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما، وهو للزهرة (مه) ولعطارد (كه) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبداً يكون متوسطاً بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعدمركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد، فإما أن يكون مقابلاً للشمس أو مقارناً لها، ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب.

الفصل الرابع

في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع

وهي من وجوه. أحدها: النظر إلى مقادير هذه الأفلاك، فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية، اختص كل واحد منها بمقدار خاص، مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة، فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية، قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر. وثانيها: النظر إلى أحيازها، فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكاً آخر فوقه وبمقعره فلكاً آخر تحته، ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه الأجزاء، وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر، فكما صح على محدبه أن يلقى جسماً وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم، ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلاً، والسافل يمكن وقوعه عالياً، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمراً جائزاً يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى. وثالثها: أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب، ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه، لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء، فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمراً ممكناً جائزاً فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص. ورابعها: أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين، وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية، وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضاً متساوية، فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمراً جائراً، فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى، وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة. وخامسها: أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة، فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة، والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور، ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة، فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة، والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره، والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص، والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير العزيز العليم. وسادسها: أن الفلك الممثل إذا انفصل عنه الفلك الخارج المركز بقي متممان: أحدهما: من الخارج، والآخر: من الداخل، وأنه جرم متشابه الطبيعة، ثم اختص أحد جوانبهما بغاية الثخن، والآخر بغاية الرقة بالنسبة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون نسبة ذلك الثخن والرقة إلى طبيعته على السوية، فاختصاص أحد جانبيه بالرقة والآخر بالثخن، لا بد وأن يكون بتخصيص المخصص المختار. وسابعها: أنها مختلفة في جهات الحركات، فبعضها من المشرق إلى المغرب، وبعضها من المغرب إلى المشرق، وبعضها شمالية، وبعضها جنوبية، مع أن جميع الجهات بالنسبة إليها على السوية، فلا بد من الإفتقار إلى المدبر. وثامنها: أنا نراها الآن متحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة، أو ما كانت متحركة، ثم ابتدأت بالحركة، ومحال أن يقال: إنها كانت أزلاً متحركة لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فالجمع بين الحركة والأزلية محال، وإن قلنا إنها ما كانت متحركة أزلاً سواء قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة موجودة أو كانت ساكنة، أو قلنا: إنها كانت قبل تلك الحركة معدومة أصلاً، فالإبتداء بالحركة بعد عدم الحركة يقتضي الإفتقار إلى مدبر قديم سبحانه وتعالى ليحركها بعد أن كانت معدومة، أو بعد أن كانت ساكنة، وهذا المأخذ أحسن المآخذ وأقواها. وتاسعها: أن يقال: إن حركاتها إما أن تكون من لوازم جسمانيتها المعينة، لكنا نرى جسمانياتها المعينة منفكة عن كل واحد من أجزاء تلك الحركة، فإذن كل واحد من أجزاء حركته ليس من لوازمه، فافتقرت الأفلاك في حركاتها إلى محرك من خارج، وذلك هو محرك المتحركات، ومدبر الثوابت والسيارات، وهو الحق سبحانه وتعالى. وعاشرها: أن هذا الترتيب العجيب في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركاتها أترى أنها مبنية على حكمة، أم هي واقعة بالجزاف والعبث؟ أما القسم الثاني: فباطل وبعيد عن العقل، فإن جوز في بناء رفيع، وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر، ثم تولد منهما لبنات، ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال، فإنه يقضي عليه بالجنون، ونحن نعلم أن تركيب هذه الأفلاك وما فيها من الكواكب، وما لها من الحركات ليس أقل من ذلك البناء، فثبت أنه لا بد فيها من رعاية حكمة، ثم لا يخلو إما أن يقال: إنها أحياء ناطقة فهي تتحرك بأنفسها أو يقال: إنه يحركها مدبر قاهر، والأول باطل لأن حركتها إما أن تكون لطلب استكمالها أو لا لهذا الغرض، فإن كانت طالبة بحركتها لتحصيل كمال فهي ناقصة في ذواتها، طالبة للاستكمال أو لا لهذا الغرض، والناقص بذاته لا بد له من مكمل، فهي مفتقرة محتاجة، وإن لم تكن طالبة بحركتها للاستكمال، فهي عابثة في أفعالها، فيعود الأمر إلى أنه يبعد في العقول أن يكون مدار هذه الأجرام المستعظمة، والحركات الدائمة، على العبث والسفه، فلم يبق في العقول قسم هو الأليق بالذهاب إليه إلا أن مدبراً قاهراً غالباً على الدهر والزمان يحركها لأسرار مخفية، ولحكم لطيفة هو المستأثر بها، والمطلع عليها، وليس عندنا إلا الإيمان بها على الإجمال على ما قال: { { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } [آل عمران: 191].

والحادي عشر: أنا نراها مختلفة في الألوان، مثل صفرة عطارد، وبياض الزهرة وضوء الشمس وحمرة المريخ ودرية المشتري، وكمودة زحل واختلاف كل واحد من الكواكب الثابتة بعظم خاص ولون خاص وتركيب خاص، ونراها أيضاً مختلفة بالسعادة والنحوسة، ونرى أعلى الكواكب السيارة أنحسها ونرى ما دونها أسعدها، ونرى سلطان الكواكب سعيداً في بعض الاتصالات نحساً في بعض ونراها مختلفة في الوجوه والخدود واللثات والذكورة والأنوثة وكون بعضها نهارياً وليلياً وسائراً وراجعاً ومستقيماً وصاعداً وهابطاً مع اشتراكها بأسرها في الشفافية والصفاء والنقاء في الجوهر فيقضي العقل بأن اختصاص كل واحد منها بما اختص به لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص.

والثاني عشر: وهو أن هذه الكواكب وكان لها تأثير في هذا العالم فهي إما أن تكون متدافعة أو متعاونة، أو لا متدافعة ولا متعاونة، فإن كانت متدافعة فإما أن يكون بعضها أقوى من بعض أو تكون متساوية في القوة وإن كان بعضها أقوى من بعض كان القوي غالباً أبداً والضعيف مغلوباً أبداً، فوجب أن تستمر أحوال العالم على طبيعة ذلك الكوكب لكنه ليس الأمر كذلك وإن كانت متساوية في القوة وهي متدافعة وجب تعذر الفعل عليها بأسرها فتكون الأفعال الظاهرة في العالم صادرة عن غيرها فلا يكون مدبر العالم هو هذه الكواكب، بل غيرها وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم أيضاً على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وإن كانت تارة متعاونة وتارة متدافعة كان انتقالها من المحبة إلى البغضة وبالعكس تغيراً لها في صفاتها فتكون هي مفتقرة في تلك التغيرات إلى الصانع المستولي عليها بالقهر والتسخير.

والثالث عشر: أنها أجسام وكل جسم مركب وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم هو مفتقر إلى غيره ممكن وكل ممكن مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مؤثر فافتقاره إلى مؤثره إما أن يكون حال بقائه، أو حال حدوثه أو حال عدمه، والأول باطل لأنه يقتضي إيجاد الموجود وهو محال، فبقي القسمان الآخران وهما يقتضيان الحدوث الدال على وجود الصانع.

والرابع عشر: أن الأجسام متساوية في الجسمية لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف، والحار والبارد، والرطب واليابس، ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام. فالجسمية قدر مشترك بين هذه الصفات، والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قالمية الصفات، فإذن كل ما صح على جسم صح على غيره، فإذن اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار، والوضع، والشكل، والطبع، والصفة، لا بد وأن يكون من الجائزات، وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع القديم جل جلاله، وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات والأرض، على إثبات الصانع: { وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ } [لقمان: 27].

النوع الثاني: من الدلائل أحوال الأرض وفيه فصلان:

الفصل الأول

في بيان أحوال الأرض

اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسباباً:

السبب الأول: اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك، وهي أقسام:

القسم الأول: المواضع العديمة العرض، وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم، تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة، وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين، وتكون حركة الفلك دولابية، ولم يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره، ولم يتصور كوكب أبدي الظهور، ولا أبدي الخفاء، بل يكون لكل نقطة سوى القطبين: طلوع وغروب، ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين، وذلك عند بلوغ قطبية دائرة الأفق، وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة، وذلك عند بلوغها نقطتي الإعتدالين.

القسم الثاني: المواضع التي لها عرض، فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق، وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين، فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين، الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك، ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل، وفي الجنوبية بالخلاف، وتصير الحركة ههنا حمائلية، ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره، إلا ما كان في معدل النهار، وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور، والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء، وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع.

القسم الثالث: وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم، وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق، وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس، ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الإنقلاب الصيفي.

القسم الرابع: وهو أن يزداد العرض على ذلك، وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس، ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور، والآخر أبدي الخفاء.

القسم الخامس: أن يصير العرض مثل تمام الميل، وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي لكنهما يماسان الأفق، وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق، والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق، ثم يطلع من أول الجدي، إلى أول السرطان دفعة، ويغرب مقابله كذلك ثم تأخذ البروج الطالعة في الغروب، والغاربة في الطلوع، إلى أن تعود الحالة المتقدمة، وينعدم الليل هناك في الإنقلاب الصيفي، والنهار في الشتوي.

القسم السادس: أن يزداد العرض على ذلك، فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي، بحيث يكون المنقلب في وسطها، ومدة قطع الشمس إياها يكون نهاراً، ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء، ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلاً، ويعرض هناك لبعض البروج نكوس، فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب، كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال، ونقطة الإعتدال الربيعي على أفق المشرق، فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء، والجوزاء قبل الثور، والثور قبل الحمل، ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض، وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره، فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك.

القسم السابع: أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة، فيكون هناك معدل النهار منطبقاً على الأفق، وتصير الحركة رحوية، ويبطل الطلوع والغروب أصلاً، ويكون النصف الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور، والنصف الجنوبي أبدي الخفاء، ويصير نصف السنة ليلاً ونصفها نهاراً.

السبب الثاني: لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة: اعلم أن خط الاستواء يقطع الأرض نصفين: شمالي وجنوبي، فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة، انقسمت كرة الأرض بهما أرباعاً، والذي وجد معموراً من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز، ويقال والله أعلم أن ثلاثة الأرباع ماء، فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الإستواء، يسمى: قبة الأرض، ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين، فتسمى لأجلها: قبة، ثم وجد طول العمارة قريباً من نصف الدور، وهو كالمجمع عليه، واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب، إلا أنهم اختلفوا في التعيين، فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس، وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى: جزائر الخالدات، زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر، وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء، فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الإنتهاء أيضاً، ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الإستواء، إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الإستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة، فيكون عرض العمارة قريباً من اثنتين وثمانين درجة، ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الإستواء، وهي التي تسمى: الأقاليم وابتداؤه من خط الإستواء، وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الإستواء، وآخر الأقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم، لقلة ما وجدوا فيه من العمارة.

السبب الثالث: لاختلاف أحوال الأرض، كون بعضها برياً وبحرياً، وسهلياً وجبلياً، وصخرياً ورملياً وفي غور وعلى نجد ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافاً شديداً، وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى: { { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاءً } [البقرة: 22] ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولاً وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضاً فنقول: طول الأرض إما أن يكون مستقيماً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئاً دفعة واحدة عند طلوع الشمس ولصار جميعه مظلماً دفعة واحدة عند غيبتها، لكن ليس الأمر كذلك لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفاً واحداً بعينه، واعتبرنا معه حالاً مضبوطاً من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه، وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي والثاني أيضاً باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولاً ثم في شرقه ثانياً ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب، ثم هذا المحدب إما أن يكون كرياً أو عدسياً، والثاني باطل لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة حتى أن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل، يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار فثبت أنها كرة في الطول، فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحاً أو مقعراً أو محدباً، والأول: باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه، ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك، لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها، والثاني: أيضاً باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك المقعر، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية.

الحجة الثانية: ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة.

بيان الأول: أن انخساف القمر نفس ظل الأرض، لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم نقول: وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديراً، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها، وبين القطعة المظلمة منها فإذا كان الظل مستديراً وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديراً فثبت أن الأرض مستديرة ثم إن هذا الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج مع أن شكل الخسوف أبداً على الاستدارة فإذن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب.

الحجة الثالثة: أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة، لأن امتداد الظل كرة، واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين، أحدهما: أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها متطبقاً على مركز العالم، ولو كان كذلك لكان الماء محيطاً بها من كل الجوانب، لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطاً بكل الأرض. الثاني: ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جداً.

أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقراً للحيوانات، وأيضاً لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء.

وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة، قالوا: لو اتخذنا كرة من خشب قطرها ذراع مثلاً، ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات، وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة.

الفصل الثاني

في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع

اعلم أن الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع أسهل من الاستدلال بأحوال السموات على ذلك وذلك لأن الخصم يدعى أن اتصاف السموات بمقاديرها وأحيازها وأوضاعها أمر واجب لذاته، ممتنع التغير فيستغني عن المؤثر، فيحتاج في إبطال ذلك إلى إقامة الدلالة على تماثل الأجسام الأرضية فإنا نشاهد تغيرها في جميع صفاتها أعني حصولها في أحيازها وألوانها وطعومها وطباعها ونشاهد أن كل واحد من أجزاء الجبال والصخور الصم يمكن كسرها وإزالتها عن مواضعها وجعل العالي سافلاً والسافل عالياً وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن اختصاص كل واحد من أجزاء الأرض بما هو عليه من المكان والحيز والمماسة والقرب من بعض الأجسام والبعد من بعضها ممكن التغير والتبدل وإذا ثبت أن اتصاف تلك الأجرام بصفاتها أمر جائز وجب افتقارها في ذلك الاختصاص إلى مدبر قديم عليم سبحانه وتعالى عن قول الظالمين، وإذا عرفت مأخذ الكلام سهل عليك التفريع.

النوع الثالث: من الدلائل اختلاف الليل والنهار وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: ذكروا للاختلاف تفسيرين. أحدها: أنه افتعال من قولهم: خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني، فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه، وبهذا فسر قوله تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان: 62]. والثاني: أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان.

وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة، فهما يختلفان بالأمكنة، فإن عند من يقول: الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي موضع ثالث عصر، وفي رابع مغرب، وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال، أما البلاد المختلفة بالعرض، فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب، ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك: { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } [الحديد: 6] وقال في القصص: { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غير ٱللَّه يَأتِيكُم بِضِياءٍ أفلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أفلا تبصرون * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص: 71 ـ 73] وفي الروم: { { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [الروم: 23] وفي لقمان: { { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَىٰ أَجَلٍ } [لقمان: 29] وفي الملائكة: { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ } [فاطر: 13] وفي يس: { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [يۤس: 37] وفي الزمر: { { يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِى لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } [غافر: 5] وفي حم غافر: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً } [غافر: 61] وفي عم: { { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 10 ـ 11] والآيات من هذا الجنس كثيرة وتحقيق الكلام أن يقال: إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه. الأول: أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس، وهي من الأيات العظام. الثاني: ما يحصل بسبب طول الأيام تارة، وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء، وهو من الآيات العظام. الثالث: أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام. الرابع: أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام، فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح. الخامس: أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى في الصور ويقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية، وهذا أيضاً من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام. السادس: أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي، وهو المراد بقوله تعالى: { { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَاعِلُ ٱللَيل سكنا } [الأنعام: 96]. السابع: أن تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهاراً وستة أشهر ليلاً وهناك لا يتم النضج ولايصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة. الثامن: أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس، من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة، يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المحرك لأجرام السموات ملك عظيم الجثة والقوة، وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلاً على أنه الصانع قلنا: أما على قولنا فلما دل الدليل على أن قدرة العبد غير صالحة للإيجاد، فقد زال السؤال، وأما على قول المعتزلة فقد نفى أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع.

النوع الرابع من الدلائل: قوله تعالى: { { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِى تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [البقرة: 164] وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك، وفلك السماء اسم لا طواق سبعة تجري فيها النجوم، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكاً لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال: والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر، وإذا أريد به الجمع أنث ومثاله قولهم: ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه: الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج، وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى.

المسألة الثانية: قال الليث سمي البحر بحراً لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه ويقال استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي البحر بحراً لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة.

المسألة الثالثة: ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة أحدها: بحر الهند، وهو الذي يقال له أيضاً بحر الصين. والثاني: بحر المغرب. والثالث: بحر الشام والروم ومصر. والرابع: بحر نيطش. والخامس: بحر جرجان.

فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند والصين، يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل، وعرضه ألفي وسبعمائة ميل ويجاوز خط الإستواء ألفاً وسبعمائة ميل، وخلجان هذا البحر. الأول؛ خليج عند أرض الحبشة، ويمتد إلى ناحية البربر، ويسمى الخليج البربري، طول مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل. والثاني: خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم، طوله ألف وأربعمائة ميل، وعرضه سبعمائة ميل، ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر، وعلى طرفه القلزم، فلذلك سمي به، وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن، وعلى غربيه أرض الحبشة. الثالث: خليج بحر أرض فارس، ويسمى: الخليج الفارسي، وهو بحر البصرة وفارس، الذي على شرقيه تيز ومكران، وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل، وعرضه خمسماية ميل، وبين هذين الخليجين أعني خليج أيلة وخليج فارس أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب، فيما بين مسافة ألف وخمسائة ميل. الرابع: يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر طوله ألف وخمسمائة ميل قالوا: وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة: ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي: سرنديب، يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر، وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة، فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ومن جزائر هذا البحر جزيرة كله، التي يجلب منها الرصاص القلعي، وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور.

وأما بحر المغرب: فهو الذي يسمى بالمحيط وتسميه اليونانيون: أوقيانوس، ويتصل به بحر الهند ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال، عند محاذاة أرض الروس والصقالبة فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب، محاذياً لأرض السودان، ماراً على حدود السوس الأقصى وطنجة، وتاهرت، ثم الأندلس، والجلالقة والصقالبة ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى: جزائر الخالدات، ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة، ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين، طوله من المشرق إلى المغرب ثلثمائة ميل وعرضه مائة ميل.

وأما بحر الروم وأفريقية ومصر والشام: فطوله مقدار خمسة آلاف ميل، وعرضه ستمائة ميل، ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية، طوله خمسمائة ميل، وعرضه ستمائة، ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين، طوله مائتا ميل، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستون جزيرة عامرة، منها خمسون جزيرة عظام.

وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية، في أرض الروس والصقالبة طوله ألف وثلثمائة ميل، وعرضه ثلثمائة ميل.

وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلثمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل، وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون، لأنها على فرضته ثم يمتد إلى طبرستان، والديلم، والنهروان، وباب الأبواب، وناحية أران، وليس يتصل ببحر آخر، فهذه هي البحور العظام، وأما غيرها فبحيرات وبطائح، كبحيرة خوارزم، وبحيرة طبرية.

وحكي عن أرسطاطاليس: أن بحر أوقيانوس ميحط بالأرض بمنزلة المنطقة لها، فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور.

المسألة الرابعة: في كيفية الإستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس، وهي من وجوه. أحدها: أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك. وثانيها: لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها. وثالثها: لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت. ورابعها: لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد، وطريقاً لمنافعهم وتجاراتهم. وخامسها: أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعياً يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن، فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. وسادسها: تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه. وسابعها: أن الأودية العظام، مثل: جيحون، وسيحون، تنصب أبداً إلى بحيرة خوارزم على صغرها، ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد ألبتة ولا تمتد، فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها. وثامنها: ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها، ويوصلها إلى سواحل السلامة. وتاسعها: ما في البحار من هذا الأمر العجيب، وهو قوله تعالى: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 19 ـ 20] وقال: { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [فاطر: 12] ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الإختلاط بالبعض، وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها.

المسألة الخامسة: دل قوله على صفة الفلك: { بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } على إباحة ركوبها، وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات.

النوع الخامس: قوله تعالى: { وَمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [البقرة: 164].

واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه. أحدها: أن تلك الأجسام، وما قام بها من صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى، قال سبحانه: { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ } [الملك: 30]. وثانيها: أنه تعالى جعله سبباً لحياة الإنسان، ولأكثر منافعه قال تعالى: { { أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ * أأنتم أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } [الواقعة: 68، 69] وقال: { { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 30]. وثالثها: أنه تعالى كما جعله سبباً لحياة الإنسان، جعله سبباً لرزقه قال تعالى: { { وَفِى ٱلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]. ورابعها: أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة، التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام. وخامسها: أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدراً بمقدار النفع من الآيات العظام، قال تعالى حكاية عن نوح: { { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ ٱلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } [نوح: 10، 11]. وسادسها: ما قال: { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ } [فاطر: 9] وقال: { { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَاءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5] فإن قيل: أفتقولون: إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز، فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر.

قلنا: بل نقول إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره، وإذا كان قادراً على إمساك الماء في السحاب، فأي بعد في أن يمسكه في السماء، فأما قول من يقول: إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه، لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار، وقدم العالم، وذلك كفر، لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم، فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه.

أما قوله: { { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الجاثية: 5] فاعلم أن هذه الحياة من جهات. أحدها: ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما، مما لولاه لما عاشت دواب الأرض. وثانيها: أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد. وثالثها: أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة، لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات، بقوله: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6]. ورابعها: أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس، لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله. وخامسها: يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة.

واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز، لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم، وكذلك الموت، إلا أن الجسم إذا صار حياً حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء، والنشور والنماء، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة.

واعلم أن إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه. أحدها: نفس الزرع، لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه. وثانيها: اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى. وثالثها: اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر. ورابعها: استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة.

النوع السادس من الآيات: قوله تعالى: { { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } [البقرة: 164] ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان، وسائر الحيوانات، كقوله: { { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءَ } [النساء: 1].

واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد، وقد يكون بالتوالد، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات.

أما الإنسان فالذي يدل على افتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه. أحدها: يروى أن واحداً قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أتعجب من أمر الشطرنج، فإن رقعته ذراع في ذراع، ولو لعب الإنسان ألف ألف مرة، فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد فقال عمر بن الخطاب ههنا ما هو أعجب منه، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر، ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم، لا يتغير ألبتة ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان، فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها. وثانيها: أن الإنسان متولد من النطفة، فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها، فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب، وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك، بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية، والأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله أكثر علماً وقدرة، ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفيتها لا يقدر على ذلك، فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك، وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع، فهذا المعنى إما أن يكون جسماً متشابه الأجزاء في نفسه، أو يكون مختلف الأجزاء، فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة، لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه، وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة، وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع، وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات، فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحماً ودماً وإنساناً من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها، وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى. وثالثها: الإستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها، وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها، واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن. ورابعها: ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم، ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا: أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار، لأنها حارة يابسة، وأدون منها في اللطافة الهواء، ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها، ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان، لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض، وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء، وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء، وتحت الكل: القلب، وهو حار يابس على طبع النار، فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء، ويركبها كيف أراد.

ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه، وعن الهواء كي لا يزيل طرواته ولطافته، وعن النار كيلا تحرقه، ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء، فقال: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59] وقال: { { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىّ } [الأنبياء: 30] وقال في الهواء: { { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] وقال أيضاً: { { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا } [المائدة: 110] وقال: { { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [الحجر: 29] وقال في النار: { { وَخَلَقَ ٱلْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ } [الرحمن: 15] وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد. وخامسها: انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم، فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً يقطع نفسه لمات في الحال، ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة، مع تعذر النفس هناك ولم يمت، ثم إنه بعد الإنفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم، بحيث لا يميز بين الماء والنار، وبين المؤذي والملذ، وبين الأم وبين غيرها، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة، كان أكثر فهماً وقت الإستكمال، فلما لم يكن الأمر كذلك، بل كان على الضد منه، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم. وسادسها: اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المشابهة بعضها بالبعض، ونرى الناس مختلفين جداً في الصورة، ولولا ذلك لاختلت المعيشة، ولاشتبه كل أحد بأحد، فما كان يتميز البعض عن البعض، وفيه فساد المعيشة، واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له.

النوع السابع من الدلائل: تصريف الرياح، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: وجه الإستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف، وهو الرقة واللطافة، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات، وذلك من وجوه. أحدها: أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضاً شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضاً وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل. لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبداً، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين، والأدوية النادرة قليلة، فلا جرم عزت هذه الأشياء، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جداً، فلا جرم كانت في نهاية العزة، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد، كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال:

سبحان من خص القليل بعزه والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس لمحتاج إلى أنفاسه

وثانيها: لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم بقلب الريح من الشمال إلى الجنوب، أو إذا كان الهواء ساكناً أن يحركه لتعذر.

المسألة الثانية؛ قال الواحدي: { وتصريف الرياح } أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير.

المسألة الثالثة: الرياح جمع الريح قال أبو علي الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الاعلال، كالواو في قوم وقول، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري: إنما سميت الريح ريحاً لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح.

المسألة الرابعة: قالوا: الرياح أربع، الشمال والجنوب والصبا والدبور، فالشمال من نقطة الشمال، والجنوب من نقطة الجنوب، والصبا مشرقية، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولاً لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء.

المسألة الخامسة؛ اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو، وعاصم وابن عامر { الرياح } على الجمع في عشرة مواضع البقرة، والأعراف، والحجر، والكهف، والفرقان والنمل والروم في موضعين، والجاثية وفاطر، وقرأ نافع في اثني عشر موضعاً هذه العشرة وفي إبراهيم: { كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرّيَاحِ } [ابراهيم: 18] وفي حم عسق: { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرّيَاحِ } [الشورى: 33] وقرأ ابن كثير: { الرياح } في خمسة مواضع البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع: في الحجر والفرقان والروم الأول منها.

واعلم أن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس، كقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع، فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال: "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى، قال تعالى: { { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ } [الروم: 46] وإنما يبشر بالرحمة، وقال في موضع الإفراد: { فِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى: { { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17] وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ ماهية } [القارعة: 3، 10].

النوع الثامن من الدلائل: قوله تعالى: { ٱلرّيَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ } [البقرة: 164] سمي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء، ومعنى التسخير التذليل، وإنما سماه مسخراً لوجوه. أحدها: أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع، فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر. الثاني: أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس، ويكثر الأمطار والابتلال، ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة، فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو كالمسخر لله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة. الثالث: أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل.

وأما قوله تعالى: { لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 24] ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { لاَيَاتٍ } لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الكل، أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد مما تقدم ذكره، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه. أحدها: أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة. وثانيها: أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادراً، لأنه لو كان المؤثر موجباً لدام الأثر بدوامه، فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع، ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع، ومن حيث أنها وقعت على وجه الأتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع، على ما قال تعالى { { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22]. وثالثها: أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلاً لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر. ورابعها: أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث، فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصاً بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهداً على وجود الصانع، لا جرم قال: إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى، وأما المحدث فكل ما عداه، وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهداً على وجوده مقراً بوحدانيته معترفاً بلسان الحال بإلهيته، وهذا هو المراد من قوله: { وَإِن مّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].

أما قوله تعالى: { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره، وما يلزم عبادته وطاعته.

واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعماً دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال: { لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قال القاضي عبد الجبار: الآية تدل على أمور. أحدها: أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك. وثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات. وثالثها: أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر.