التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى ذكر هٰهنا قصصاً ثلاثة: الأولى: منها في بيان إثبات العلم بالصّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشر والنشر والبعث، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول:

أما قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها، ولفظها لفظ الاستفهام وهي كما يقال: ألم تر إلى فلان كيف يصنع، معناه: هل رأيت كفلان في صنعه كذا.

أما قوله: { إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى رِبّهِ } فقال مجاهد: هو نمروذ بن كنعان، وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل: إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل، وقيل: بعد إلقائه في النار، والمحاجة المغالبة، يقال: حاججته فحججته، أي غالبته فغلبته، والضمير في قوله { فِى رِبّهِ } يحتمل أن يعود إلى إبراهيم، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن، والأول أظهر، كما قال: { { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللَّهِ } [الأنعام: 80] والمعنى وحاجه قومه في ربه.

أما قوله: { أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } فاعلم أن في الآية قولين الأول: أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم، يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم الملك، واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول: قوله تعالى: { { فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءاتَيْنَـٰهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [النساء: 54] أي سلطاناً بالنبوّة، والقيام بدين الله تعالى والثاني: أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار، ويدعي الربوبية لنفسه والثالث: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير، فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم.

وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام.

وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هٰهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى، وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً، ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى.

وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك، فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول: أن قوله تعالى: { أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } يحتمل تأويلات ثلاثة، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا: الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك، كما يقال: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونظيره قوله تعالى: { { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [الواقعة: 82] وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له، فثبت أنه لا يستقيم لقوله { أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي.

الحجة الثانية: أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق، ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً، وإبراهيم ما كان ملكاً، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً، ولما كان الكافر ملكاً، فوجب المصير إلى ما ذكرنا.

الحجة الثانية: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر، بل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يمنعه منه أشد منع، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك، قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف، لأنه من المحتمل أن يقال: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات، وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم، فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين، وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوداً، وكان الاختيار إليه، واستبقى الآخر، إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه.

وأيضاً قوله { أنا أحيي وأميت } خبر ووعد، ولا دليل في القرآن على أنه فعله، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة.

أما قوله تعالى: { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور،وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة، فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلٰهاً، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال: { { إِنّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الزخرف: 46] { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الشعراء: 23] فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلٰهية بقوله { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فكذا هٰهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة، فقال نمروذ: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، إلا أن تلك المقدمة حذفت، لأن الواقعة تدل عليها.

المسألة الثانية: دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، والأحياء والاماتة كذلك، لأن الخلق عاجزون عنهما، والعلم بعد الاختيار ضروري، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم، وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً، والأول: باطل، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر، فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة، وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء، والثاني: وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] إلى آخره، وقوله { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ } [التين: 4، 5] وقال تعالى: { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [الملك:2].

المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ } [البقرة: 28] وقال: { { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [الملك: 2] وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى: { { وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 81] فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت، حيث قال: { رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ }.

والجواب: لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإنسان عليها أتم، فلا جرم وجب تقديم الحياة هٰهنا في الذكر.

أما قوله تعالى: { أنا أحيي وأميت } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة، دعا ذلك الملك الكافر شخصين، وقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أنا أيضاً أحيي وأميت، هذا هو المنقول في التفسير، وعندي أنه بعيد، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر، تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أو تدعى صدور الإحياء والإماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أما الأول: فلا سبيل إليه، وأما الثاني: فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الإحياء والإماتة بواسطة سائر الأسباب، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية، وتناول السم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك، لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية، فظهر الفرق.

وإذا عرفت هذا فقوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِ بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ } ليس دليلاً آخر، بل تمام الدليل الأول: ومعناه: أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك، إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه، وأنه لا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهور عند الكل، والله أعلم بحقيقة الحال.

المسألة الثانية: أجمع القرّاء على إسقاط ألف { أَنَاْ } في الوصل في جميع القرآن، إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة، والصحيح ما عليه الجمهور، لأن ضمير المتكلم هو { أن } وهو الهمزة والنون، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف، وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل، فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل، لأن ما يتصل به يقوم مقامه، ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت، لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في { أَنَاْ } والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل.

أما قوله تعالى: { قَالَ إِبْرٰهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول: وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل.

فإن قيل: هلا قال نمروذ: فليأت ربك بها من المغرب؟.

قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني: أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام.

والطريق الثاني: وهو الذي قال به المحققون: إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى، ثم إن قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها: الإحياء، والإماتة، ومنها السحاب، والرعد، والبرق، ومنها حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه، والإشكال عليهما من وجوه:

الإشكال الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.

والإشكال الثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً، وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز.

والإشكال الثالث: وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل، أو من مثال إلى مثال، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وهٰهنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السمٰوات، وأنه هو الذي يكون محركاً للسمٰوات، وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً.

والإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوي الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً، ولا في صفاتها تبدلاً، ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف، وأنه لا يجوز.

الإشكال الخامس: أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إلٰه فقل له حتى يطلعها من المغرب، وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً، وأيضاً فما الدليل الذي حمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات، لأنا نقول: لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه، والله أعلم بحقيقة كلامه.

أما قوله تعالى: { فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ } فالمعنى: فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جوابه، وهو كقوله { { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } [الأنبياء: 40] قال الواحدي، وفيه ثلاث لغات: بهت الرجل فهو مبهوت، وبهت وبهت، قال عروة العذري:

فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب

أي أتحير وأسكت.

ثم قال: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } وتأويله على قولنا ظاهر، أما المعتزلة فقال القاضي: يحتمل وجوهاً: منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.

وأقول: هذا ضعيف، لأن قوله لا يهديهم للحجاج، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر، فكيف يصح أن يقال: إن الله تعالى لا يهديه إليه، قال القاضي: ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به.

وأقول: هذا أيضاً ضعيف، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال: إنه تعالى لا يهديهم، كما لا يقال: إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي: ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة.

وأقول: هذا أيضاً ضعيف، لأن المذكور هٰهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة، بل أقول: اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر، ونظير هذا التفسير قوله { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } [الأنعام: 111].

القصة الثانية

والمقصود منها إثبات المعاد، قوله تعالى: { أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا }.

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله { أَوْ كَٱلَّذِى } وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول: أن يكون قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ } [البقرة: 258] في معنى (أَلم تر كالذي حاج ابراهيم ) وتكون هذه الآية معطوفة عليه، والتقدير: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية، فيكون هذا عطفاً على المعنى، وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي، وأكثر النحويين قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: { { قُل لّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون: 84، 85] ثم قال: { مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون: 85، 86] فهذا عطف على المعنى لأن معناه: لمن السمٰوات؟ فقيل لله. قال الشاعر:

معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فحمل على المعنى وترك اللفظ.

والقول الثاني: وهو اختيار الأخفش: أن الكاف زائدة، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية.

والقول الثالث: وهو اختيار المبرد: أنا نضمر في الآية زيادة، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية.

المسألة الثانية: اختلفوا في الذي مرّ بالقرية، فقال قوم: كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة، وقال الباقون: إنه كان مسلماً، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس: هو أرمياء، ثم من هؤلاء من قال: إن أرمياء هو الخضر عليه السلام، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام، وهو قول محمد بن إسحاق، وقال وهب بن منبه: إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة، حجة من قال: إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول: أن الله حكى عنه أنه قال: { أنى يحي هذه الله بعد موتها } وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر.

فإن قيل: يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ.

قلنا: لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل، فيقول: متى يقلبه الله ذهباً، أو ياقوتاً، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات، فكذا هٰهنا.

الوجه الثاني: قالوا: إنه تعالى قال في حقه { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع.

الوجه الثالث: أنه قال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت، وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك.

الوجه الرابع: لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم، فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.

وحجة من قال: إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول: أن قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } يدل على أنه كان عالماً بالله، وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.

/الحجة الثانية: أن قوله { كَمْ لَبِثْتَ } لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير: قال الله تعالى: { كَمْ لَبِثْتَ } فقال ذلك الإنسان { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فقال الله تعالى: { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ } ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى، ثم قال: { وَٱنظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر.

فإن قيل: لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى.

قلنا: ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز.

والحجة الثالثة: أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما، وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم، وذلك لا يليق بحال الكافر له.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان.

قلنا: لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز.

فإن قيل: لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال: إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما، والأول: باطل، لأن إرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة، وذلك لا يتم بعد الإماتة، وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى، وذلك غير جائز.

قلنا: إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا، وعلى هذا الطريق زال السؤال.

الحجة الرابعة: أنه تعالى قال في حق هذا الشخص { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ } وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى: { { وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءَايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 91] فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً، وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى، ونبوّة نبي ذلك الزمان.

والجواب من وجهين الأول: أن قوله { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً } إخبار عن أنه تعالى يجعله آية، وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله، وتكلم معه، والمجعول لا يجعل ثانياً، فوجب حمل قوله { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ } على أمر زائد عن هذا الإحياء، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني: أنه وجه التمسك أن قوله { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ } يدل على التشريف العظيم، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.

الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون، ومنهم عزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى بابل، فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } لا على سبيل الشك في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب ونام، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء: يا عزير { كَمْ لَبِثْتَ } بعد الموت فقال { يَوْماً } فأبصر من الشمس بقية فقال { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فقال الله تعالى: { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ } من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور عن الجلد، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً، وقال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف، فعند ذلك قالوا: عزير بن الله، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً.

المسألة الثالثة: اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع: إيلياء وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت.

أما قوله تعالى: { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } قال الأصمعي: خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله، والخوا: خلو البطن من الطعام، وفي الحديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى" أي خلى ما بين عضديه وجنبيه، وبطنه وفخذيه، وخوى الفرس ما بين قوائمه، ثم يقال للبيت إذا انهدم: خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك: خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر، والعرش سقف البيت، والعروش الأبنية، والسقوف من الخشب يقال: عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب، فقوله: { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أي منهدمة ساقطة خراب، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه وجوه أحدها: أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى: { { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] وموضع آخر { { أَعْجَازُ نَخْلٍ منقعر } [القمر: 20] وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني: قوله تعالى: { خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أي خاوية عن عروشها، جعل (عَلَىٰ) بمعنى (عَنْ ) كقوله { { إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ } [المطففين: 2] أي عنهم والثالث: أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر.

أما قوله تعالى: { قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } فقد ذكرنا أن من قال: المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى، ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد، كما قال إبراهيم عليه السلام: { { أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260] وقوله { أنّى } أي من أين كقوله { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران: 37] والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها، أي متى يفعل الله تعالى ذلك، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه، وفي إحياء القرية آية { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ } وقد ذكرنا القصة.

فإن قيل: ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل.

قلنا: لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة، وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره أعجب.

أما قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثَهُ } فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال { ثُمَّ بَعَثَهُ } ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله { ثُمَّ بَعَثَهُ } يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلٰهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد.

أما قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: فيه وجهان من القراءة، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار، فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين.

المسألة الثانية: أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى، لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى.

المسألة الثالثة: في الآية إشكال، وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة.

والجواب عنه: أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق.

أما قوله تعالى: { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ففيه سؤالات:

السؤال الأول: لم ذكر هذا الترديد؟.

الجواب: أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار، فقال { يَوْماً } ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }.

السؤال الثاني: أنه لما كان اللبث مائة عام، ثم قال: { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أليس هذا يكون كذباً؟.

والجواب: أنه قال ذلك على حسب الظن، ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا { { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف: 19] على ما توهموه ووقع عندهم، وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام: { { يَـٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [يوسف: 81] وإنما قالوا: ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله.

السؤال الثالث: هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت.

الجواب: الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه، أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت.

أما قوله تعالى: { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } فالمعنى ظاهر، وقيل: العام أصله من العوم الذي هو السباحة، لأن فيه سبحاً طويلاً لا يمكن من التصرف فيه.

أما قوله تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } و { ٱقْتَدِهْ } و { مَالِيَهْ } و { سُلْطَـٰنِيَهْ } و { ماهيه } بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله { وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } و { ٱقْتَدِهْ } ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله { { لَمْ أُوتَ كِتَـٰبِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 25، 26] أنها بالهاء في الوصل والوقف.

إذا عرفت هذا فنقول: أما الحذف ففيه وجوه أحدهما: أن اشتقاق قوله { يَتَسَنَّهْ } من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة، قالوا: والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة، وقال الشاعر:

ورجـال مكـة مسنتـون عجـاف

ويقولون في جمعها: سنوات وفي الفعل منها: سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة، وفي التصغير: سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } للسكت لا للأصل وثانيها: نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال: يجوز أن تكون أصل سنة سننة، لأنهم قالوا في تصغيرها: سنينة وإن كان ذلك قليلاً، فعلى هذا يجوز أن يكون { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أصله لم يتسنن، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف، فيقال: لم يتقضه وثالثها: أن يكون { لَمْ يَتَسَنَّهْ } مأخوذاً من قوله تعالى: { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26] والسن في اللغة هو الصب، هكذا قال أبو علي الفارسي، فقوله: لم يتسنن. أي الشراب بقي بحاله لم ينضب، وقد أتى عليه مائة عام، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف، وأما بيان الإثبات فهو أن { لَمْ يَتَسَنَّهْ } مأخوذ من السنة، والسنة أصلها سنهه، بدليل أنه يقال في تصغيرها: سنيهة، ويقال: سانهت النخلة بمعنى عاومت، وآجرت الدار مسانهة، وإذا كان كذلك فالهاء في { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لام الفعل، فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف.

المسألة الثانية: قوله تعالى: { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغير وأصل معنى { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه، ونقلنا عن أبي علي الفارسي: لم يتسنن أي لم ينضب الشراب، بقي في الآية سؤالان:

السؤال الأول: أنه تعالى لما قال: { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله { فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم.

والجواب: أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } قال: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } فإن هذا مما يؤكد قولك { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده { وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.

السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر الطعام والشراب، وقوله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.

والجواب: كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير، لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه، والمروى أن طعامه كان التين والعنب، وشرابه كان عصير العنب واللبن، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه (وانظر إِلى طعامك وهـذا شرابك لم يتسنن).

أما قوله تعالى: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ } فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } قال الضحاك: معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث، وقال غيره: كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس.

أما قوله تعالى: { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ } فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.

فإن قيل: ما فائدة الواو في قوله { وَلِنَجْعَلَكَ } قلنا: قال الفرّاء: دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال: وانظر إلى حمارك لنجعلك آية، كان النظر إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاء، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام، أما لما قال: { وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً } كان المعنى: ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء، ومثله قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلأَيَـٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [الأنعام: 105] والمعنى: وليقولوا درست صرفنا الآيات { { وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] أي ونريه الملكوت.

أما قوله تعالى: { وَٱنظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ } فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، فإن اللام فيه بدل الكناية، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه، قالوا: إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه، وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض، وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه: وانظر إلى عظامك، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد، وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها: أن قوله { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة، وعظام بدنة رميمة نخرة، فلا يليق به ذلك القول وثانيها: أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله، فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها: أن قوله { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها.

أما قوله { كَيْفَ ننشرها } فالمراد يحييها، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال تعالى: { ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ } وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى: { { قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا } [يۤس: 78، 79] وقرىء { ننشرها } بفتح النون وضم الشين، قال الفرّاء: كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف، فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي، وقرأ حمزة والكسائي { كَيْفَ نُنشِزُهَا } بالزاي المنقوطة من فوق، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض، وانشاز الشيء رفعه، يقال أنشزته فنشز، أي رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز، ومنه نشوز المرأة، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج، ومعنى الآية على هذه القراءة: كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ { ننشِزُهَا } بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال: نشزته وأنشزته أي رفعته، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام، ثم بسط اللحم عليها، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها، ورفع بعضه إلى جنب البعض، فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك.

ثم قال تعالى: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب «الكشاف»: فاعل { تَبَيَّنَ لَهُ } مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا عندي فيه تعسف، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } وتأويله: أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي { قَالَ أَعْلَمُ } على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما: أنه عند التبين أمر نفسه بذلك، قال الأعشى:

ودع أمامـة إن الركـب قد رحلـوا

والثاني: أن الله تعالى قال: { أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش: قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم { { ربي أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260] ثم قال في آخرها { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260] قال القاضي: والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به، وهٰهنا العلم حاصل بدليل قوله { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز، أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزاً.