التفاسير

< >
عرض

لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٨٦
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعلى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } اعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله { { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة: 285] وقالوا { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.

المسألة الثانية: في كيفية النظم: إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالى بحكم الرحمة الإلٰهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين، وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم قالوا بعده { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } دل ذلك على أن قولهم { غُفْرَانَكَ } طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم: { غُفْرَانَكَ } طلباً للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال: { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا }.

المسألة الثالثة: يقال: كلفته الشيء فتكلف، والكلف اسم منه، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفرّاء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.

المسألة الرابعة: المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه، ونظيره قوله تعالى: { { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] وقوله { { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ } [النساء: 28] وقوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } [البقرة: 185] وقالوا: هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق، قالوا: وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول: أن العبد موجد لأفعال نفسه، فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه، أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانياً، وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل، فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان، فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع.

أما الأصحاب فقالوا: دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية.

الحجة الأولى: أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع، وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم، فهي أيضاً جارية في الجبر.

الحجة الثانية: أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً، إنما قلنا: إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي، لأن قدرة العبد لما كانت صالحة للفعل والترك، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإنما قلنا: إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر، لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق.

الحجة الثالثة: أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين، أو حال رجحان أحدهما، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق، لأن الاستواء يناقض الرجحان، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان، فقد كلف بالجمع بين النقيضين، وإن كان الثاني فالراجح واجب، والمرجوح ممتنع، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب، وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع.

الحجة الرابعة: أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن، فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق.

الحجة الخامسة: العبد غير عالم بتفاصيل فعله، لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان، ويسكن في بعضها، وأنه أين تحرك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها، لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال، فثبت أن العبد غير موجد، فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب، فعلمنا أنه لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول: وهو الأصوب: أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي، والظاهر السمعي، فإما أن يصدقهما وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يكذبهما وهو محال، لأنه إبطال النقيضين، وإما أن يكذب القاطع العقلي، ويرجح الظاهر السمعي، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن، وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً، فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة، سواء عرفناه أو لم نعرفه، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل.

الوجه الثاني في الجواب: هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً، بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة، وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار.

والجواب الثالث: وهو أن الإنسان ما دام لم يمت، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك، فنحن شاكون في قيام المانع، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه. فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.

الجواب الرابع: أنا بينا أن قوله { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ليس قول الله تعالى، بل هو قول المؤمنين، فلا يكون حجة، إلا أن هذا ضعيف، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام، إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا، وأن يعفو عن خطايانا، فإنا لا نطلب إلا الحق، ولا نروم إلا الصدق.

أما قوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب، قال الواحديرحمه الله : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال ذو الرمة:

ألفـى أبـاه بـذاك الكـسب يكتسـب

والقرآن أيضاً ناطق بذلك، قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38] وقال: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [الأنعام: 164] وقال: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَـٰطَتْ بِهِ خطيئته } ً } [البقرة: 81] وقال: { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ } [الأحزاب: 58] فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر، ومن الناس من سلم الفرق، ثم فيه قولان أحدهما: أن الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله، ولا يقال مكتسب لأهله والثاني: قال صاحب «الكشاف»: إنما خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب، لأن الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم.

المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه، قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق، قال القاضي: لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف، وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب.

المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا: لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر، قال الجبائي: ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير: لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة، وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة، والجمع بينهما محال في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً.

واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264] فلا نعيده.

المسألة الرابعة: احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم، ووجه الاستدلال ظاهر فيه، ونظيره قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164].

المسألة الخامسة: الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار، لأن اللام في قوله { لَهَا مَا كَسَبَتْ } يدل على ثبوت هذا الاختصاص، وتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين" وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه.

منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } والعارض الموجود، إما الغضب، وإما الضمان، وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة.

ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه، أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله { لَهَا مَا كَسَبَتْ }.

ومنها أنه لا شفعة للجار، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله { لَهَا مَا كَسَبَتْ } والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك، وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار.

ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم، وهو قوله { لَهَا مَا كَسَبَتْ } والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً، فإنه يجب رده على المالك، ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه.

ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به، وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص، والخاص مقدم على العام، وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم.

ثم إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186] فقال: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله { رَبَّنَا } إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا }.

أما النوع الأول فهو قوله { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن الناسي قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة.

المسألة الثانية: في النسيان وجهان الأول: أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.

فإن قيل: أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .

فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء والجواب: عنه من وجوه الأول: أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأما إذا واظب على القراءة، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً، فثبت أن النسيان على قسمين، منه ما يكون معذوراً، ومنه ما لا يكون معذوراً، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.

الوجه الثاني في الجواب: أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.

الوجه الثالث في الجواب: أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى، لا طلب الفعل، ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع، قال الله تعالى: { قَالَ رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } [الأنبياء: 112] وقال: { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [آل عمران: 194] وقالت الملائكة في دعائهم { { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر: 7] فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.

الوجه الرابع في الجواب: أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس، فلما كان ذلك جائزاً في العقول، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.

الوجه الخامس: أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.

والقول الثاني: في تفسير النسيان، أن يحمل على الترك، قال الله تعالى: { فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] وقال تعالى: { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] أي تركوا العمل لله فتركهم، ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد، والمراد بالخطأ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد.

المسألة الثالثة: علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي، ولما أمرهم بطلب ذلك، دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.

فإن قيل: الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة.

قلنا: فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.

قوله تعالى: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا }.

إعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الإصر في اللغة: الثقل والشدة، قال النابغة:

يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا

ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل، قال الله تعالى: { { وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى } [آل عمران: 81] أي عهدي وميثاقي والإصر العطف، يقال: ما يأصرني عليه آصرة، أي رحم وقرابة، وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره.

المسألة الثانية: ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم، قال الله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [النساء: 160] وقال تعالى: { { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } [النساء: 66] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلاً في الدنيا، كما قال: { مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } [النساء: 47] وكانوا يمسخون قرد وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة { { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157] وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق" وقال الله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال:33] وقال عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير، والتقصير موجب للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.

والقول الثاني: لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ، فيكون القول الأول أولى.

المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد، قالت المعتزلة: من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان، مفسدة في حق غيره، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.

أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول: ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع، وقسوة القلب ودناءة الهمة، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم.

ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء: 23].

قوله تعالى: { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }.

إعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الطاقة اسم من الإطاقة، كالطاعة من الإطاعة، والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر.

المسألة الثانية: من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى.

أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول: أن قوله { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له. قال الشاعر:

إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك: "له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" أي ما يشق عليه، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المريض يصلي جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب" فقوله: فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس، بل كل الفقهاء يقولون: المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة، وقال الله تعالى في وصف الكفار { { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } [هود: 20] أي كان يشق عليهم.

الوجه الثاني: أنه تعالى لم يقل: لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به، بل قال: { لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله { لا تُحَمّلْنَا } حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله { لا تُحَمّلْنَا } مجازاً فيه، فكان الأول أولى.

الوجه الثالث: هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله { رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بباطل، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام { { وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [الشعراء: 87] على جواز أن يخزي الأنبياء، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [الأحزاب: 48] ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله { { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] هذا جملة أجوبة المعتزلة.

أجاب الأصحاب فقالوا:

أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين الأول: أنه لو كان قوله { وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله { لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.

وأما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال الله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [الأحزاب: 72] إلى قوله { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ } [الأحزاب: 72] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله { لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.

وأما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم.

إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق.

المسألة الثالثة: إعلم أنه بقي في الآية سؤالات:

السؤال الأول: لم قال في الآية الأولى { لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا } وقال في هذه الآية { لا تُحَمّلْنَا } خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.

الجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.

السؤال الثاني: أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله { لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا } كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.

والجواب: الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما: قيامه بظاهر الشريعة والثاني: شروعه في بدء المكاشفات، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد، وفي المقام الثاني قال: لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك، ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك، ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } مقدماً في الذكر على قوله { لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }.

السؤال الثالث: أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا * وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا * وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء؟

والجواب: المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل.

قوله تعالى: { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ }.

إعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ { رَبَّنَا } وأما هذا الدعاء الرابع، فقد حذف منه لفظ { رَبَّنَا } وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان:

السؤال الأول: لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا؟.

الجواب: النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر.

السؤال الثاني: ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة؟.

الجواب: أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، والأول: هو العذاب الجسماني، والثاني: هو العذاب الروحاني، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب، وهو أيضاً قسمان: ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها، وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى، مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى، فقوله { وَٱرْحَمْنَا } طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك { أَنتَ مَوْلَـٰنَا } طلب للثواب الروحاني، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله { أَنتَ مَوْلَـٰنَا } خطاب الحاضرين، ولعلّ كثيراً من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات، ويقولون: إنها من باب الطاعات، ولقد صدقوا فيما يقولون، فذلك مبلغهم من العلم { { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [النجم: 30].

وفي قوله { أَنتَ مَوْلَـٰنَا } فائدة أخرى، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السمٰوات والأرض، والقائم بإصلاح مهمات الكل، وهو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال: { { نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية { { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [البقرة: 257] أي ناصرهم، وقوله { { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـٰهُ } [التحريم: 4] أي ناصره، وقوله { { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُم } [محمد: 11].

ثم قال: { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: { { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } [التوبة: 33] ومن المحققين من قال: { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله، وهذا آخر السورة.

وروى الواحديرحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكة: إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله { آمن ٱلرَّسُولُ } فسله وارغب إليه، فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } فقال الله تعالى: «قد غفرت لكم» فقال: { لاَ تُؤَاخِذْنَا } فقال الله: (لا أؤاخذكم ) فقال: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } فقال: «لا أشدد عليكم» فقال محمد { لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فقال: «لا أحملكم ذلك» فقال محمد { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا } فقال الله تعالى: «قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين» وفي بعض الروايات أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات، والملائكة كانوا يقولون آمين.

وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول: إلٰهي وسيدي كل ما طلبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك، فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلّم.