التفاسير

< >
عرض

وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ
٢٢٤
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
٢٢٥
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ
٢٢٦
إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
٢٢٧
-الشعراء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن الكفار لما قالوا: لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء؟ ثم إنه سبحانه فرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الكهنة، فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون، أي الضالون، ثم بين تلك الغواية بأمرين: الأول: { أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا الثاني: { أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } وذلك أيضاً من علامات الغواة، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له: { { فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء: 213] ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له: { { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد صلى الله عليه وسلم ما كان يشبه حال الشعراء، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة: أحدها: الإيمان وهو قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }، وثانيها: العمل الصالح وهو قوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ }، وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، وهو قوله: { وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً }، ورابعها: أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وهو قوله: { وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال الله تعالى: { { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوء مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء: 148] ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً، وعن كعب بن مالك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل " وكان يقول لحسان بن ثابت " قل وروح القدس معك " .

فأما قوله تعالى: { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل العقلية، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين، ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً صلى الله عليه وسلم تارة بالكاهن، وتارة بالشاعر، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور: المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.