التفاسير

< >
عرض

أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ
٤١
فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ
٤٢
فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٤٣
عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ
٤٤
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
٤٥
بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ
٤٦
لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ
٤٧
وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ
٤٨
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ
٤٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٥٠
-الصافات

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين على إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخصلين قراءتين فالفتح أن الله تعالى أخلصهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوماً، ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال، فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية، قال تعالى: { { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62]، وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ولذة حسن منظر، وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع، وقيل معناه: القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل، ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقاً بين أن ذلك الرزق ما هو فقال: { فَوٰكِهُ } وفيه قولان الأول: أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني: أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الأدام أولى بالحضور، والقول الأول أقرب إلى التحقيق، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال: { وَهُم مُّكْرَمُونَ } لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.

ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال: { فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ * عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم، ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشراب فقال: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأساً قال:

وكأس شربت على لذة [وأخرى تداويت منها بها]

وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقوله: { مّن مَّعِينٍ } أي من شراب معين، أو من نهر معين، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معيناً لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جارياً، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل، وقيل سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين، ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه، وقوله: { بَيْضَاء } صفة للخمر، قال الأخفش، خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن، وقوله: { لَذَّةٍ } فيه وجوه أحدها: أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين وثانيها: قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف وثالثها: قال الليث: اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحداً في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى: { بَيْضَاء لَذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ } وقال تعالى: { { مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ } [محمد: 15] ولذلك سمي النوم لذاً لاستلذاذه، وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة، والأقرب من هذه الوجوه الأول.

ثم قال تعالى: { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } وفيه أبحاث:

البحث الأول: قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس:

وما زالت الكأس تغتالهم وتذهب بالأول الأول

وقال الليث: الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا، قال الواحديرحمه الله وحقيقته الإهلاك، يقال غاله غولاً أي أهلكه، والغول والغائل المهلك، ثم سمي الصداع غولاً لأنه يؤدي إلى الهلاك.

ثم قال تعالى: { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } وقرىء بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه لا يذهب عقولهم أي لا يسكرون يقال نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، والمعنى ليس فيها قط نوع من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من صداع أو خمار أو عربدة ولا هم يسكرون أيضاً، وخصه بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر، ولما ذكر الله تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم من ثلاثة أوجه الأول: قوله: { وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ } ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: { { حُورٌ مَّقْصُورٰتٌ فِى ٱلْخِيَامِ } [الرحمٰن: 72] والمعنى أنهن يحبسن نظرهن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.

الصفة الثانية: قوله تعالى: { عِينٌ } قال الزجاج: كبار الأعين حسانها واحدها عيناء.

الصفة الثالثة: قوله تعالى: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } المكنون في اللغة المستور يقال كننت الشيء وأكننته، ومعنى هذا التشبيه أن ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة، فإذا كان مكنوناً كان مصوناً عن الغبرة والقترة، فكان هذا اللون في غاية الحسن والعرب كانوا يسمون النساء بيضات الخدور.

ولما تمم الله صفات أهل الجنة قال: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } فإن قيل على أي شيء عطف قوله: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ }؟ قلنا على قوله: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراب قال الشاعر:

وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على المدام

والمعنى فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.