التفاسير

< >
عرض

صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ
١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
٢
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ولا بأس بإعادة بعض الوجوه فالأول: أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد، كقولنا صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد والثاني: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله الثالث: معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين، كما قال تعالى: { { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [النحل: 88] الرابع: معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن، فدل ذلك على أن القرآن معجز الخامس: أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها الصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه السادس: أنه اسم السورة والتقدير هذه صاد، فإن قيل ههنا إشكالان أحدهما: أن قوله: { وَٱلْقُرْءانِ ذِى ٱلذّكْرِ } قسم وأين المقسم عليه؟ والثاني: أن كلمة (بل) تقتضي رفع حكم ثبت قبلها، وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق، فأين هذا المعنى ههنا؟ والجواب: عن الأول من وجوه الأول: أن يكون معنى صاد، بمعنى صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون صاد هو المقسم عليه، وقوله: { وَٱلْقُرْءانِ ذِى الذكر } هو القسم الثاني: أن يكون المقسم عليه محذوفاً، والتقدير سورة (ص والقرآن ذي الذكر) أنه لكلام معجز، لأنا بينا أن قوله { ص } تنبيه على التحدي والثالث: أن يكون صاد اسماً للسورة، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر، ولما كان المشهور، أن محمداً عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة، كان قوله هذه ص جارياً مجرى قوله: هذه هي السورة المعجزة، ونظيره قولك هذا حاتم والله، أي هذا هو المشهور بالسخاء والجواب: عن السؤال الثاني أن الحكم المذكور قبل كلمة { بَلِ } أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقاً في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة { بَلِ } ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب، والله أعلم.

المسألة الثانية: قرأ الحسن صاد بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين، وقرأ عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله كقولهم الله لأفعلن، وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر.

المسألة الثالثة: في قوله ذي الذكر وجهان الأول: المراد ذي الشرف، قال تعالى: { { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] وقال تعالى: { { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـٰباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [الأنبياء: 10] ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس، كما يقولون له صيت الثاني: ذي البيانين أي فيه قصص الأولين، والآخرين، وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ومجازه من قوله: { { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 22].

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة القرآن ذي الذكر والذكر محدث بيان الأول: قوله تعالى: { { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } [الأنبياء: 50] { { وَٱلْقُرْءانِ ذِى الذكر } [ص: 1] { { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } [يس: 69] وبيان الثاني: قوله: { { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] وقوله { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ } والجواب: أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثه.

أما قوله: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق، والعزة ههنا التعظيم وما يعقتده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى: { { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } [البقرة: 206] والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق، فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه، ومثله المعاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة، وهي جانب الوادي، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر، ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلاناً أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه، والله أعلم، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال: { كَم أَهْلَكْنَا قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ } والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا، وفيه وجوه الأول: وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة الثاني: نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب الثالث: نادوا أي رفعوا أصواتهم، يقال فلان أندى صوتاً من فلان أي ارفع صوتاً، ثم قال: { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } يعني ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله: { { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمنا } [غافر: 84] وقال: { { حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْـئَرُونَ } [المؤمنون: 64] والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله: { { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [يونس: 91] وقوله: { { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر: 85] بقي ههنا أبحاث:

البحث الأول: في تحقيق الكلام في لفظ { لات } زعم الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد، وبسب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها، إما الاسم وإما الخبر ويمتنع بروزهما جميعاً، وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان { وَحِينَ مَنَاصٍ } منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالابتداء أي ولات حين مناص كائن لهم.

البحث الثاني: الجمهور يقفون على التاء من قوله: { وَّلاَتَ } والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة، قال صاحب «الكشاف»: وأما قول أبي يعبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.

البحث الثالث: المناص المنجا والغوث، يقال ناصه إذا أغاثه، واستناص طلب المناص، والله أعلم.