التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٢٤
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ }.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: الاحصان في اللغة المنع، وكذلك الحصانة، يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة، أي مانعة صاحبها من الجراحة. قال تعالى: { { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ } [الأنبياء: 80] معناه لتمنعكم وتحرزكم، والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء، والحصان بالكسر الفرس الفحل، لمنعه صاحبه من الهلاك، والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد، قال تعالى: { { وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [التحريم: 12].

واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الحرية كما في قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } [النور: 4] يعني الحرائر، ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين، وكذلك قوله: { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } يعني الحرائر، وكذلك قوله: { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } [النساء: 25] وقوله: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } وقوله: { وَٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [الأنبياء: 91] أي أعفته، وثالثها الاسلام: من ذلك قوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قيل في تفسيره: اذا أسلمن، ورابعها: كون المرأة ذات زوج يقال: امرأة محصنة اذا كانت ذات زوج، وقوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } يعني ذوات الأزواج، والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات، فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير.

واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللُّغَويّ، وهو المَنْع، وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع، فالحرية سبب لتحصين الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي، وكذلك الاسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة، والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من تزوج فقد حصن ثلثي دينه" فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم.

المسألة الثانية: قال الواحديّ: اختلف القُراء في { ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فانهم أجمعوا على الفتح فيها، فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني: أسلمن واخترن العفاف، وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور. ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن، يعني أحصنهن أزواجهن، والله أعلم.

المسألة الثالثة:قال الشافعي- رحمة الله عليه-: الثَّيّب الذمي إذا زنى يُرْجَم، وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا يرجم. حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لاباحة الدم، فوجب أن يثبت إباحة الدم، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم. أما قولنا: حصل الزنا مع الاحصان، فهذا يعتمد اثبات قيدين: أحدهما: حصول الزنا ولا شك فيه. الثاني: حصول الاحصان وهو حاصل، لأن قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء } يدل على أن المراد من المحصنة: المزوجة، وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة، فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان، وإنما قلنا: ان الزنا مع الاحصان علة لاباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرىء مسلم الا لاحدى معان ثلاثة" ومنها قوله: "وزنا بعد إحصان" جعل الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم في حق المسلم، والمسلم محل لهذا الحكم، أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الإحصان، بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه. أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم، أن الزنا بعد الإحصان علة لاباحة الدم، إلا أن كونه مسلما محل الحكم، وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل، والا لبطل القياس بالكلية. وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل، وهي ماهية الزنا بعد الاحصان، وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي، وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم، فثبت أنه مباح الدم. ثم ههنا طريقان: ان شئنا اكتفينا بهذا القدر، فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به، فصار محجوجا، أو نقول: لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق.

فان قيل: ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن، فههنا ما يدل على أنه غير محصن، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من أشرك بالله فليس بمحصن" .

قلنا: ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن، وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن، فنقول: إنه محصن بمعنى أنه لعله ذو زوج، وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفه، وقوله: من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه، لا على أنه لا يحد على الزنا، لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية، والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة، وقولنا: انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة، أما قولنا: لا يحد على الزنا، لا يصلح أن يكون عقوبة له، فكان المراد من قوله: من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم.

المسألة الرابعة: في قوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء } قولان: أحدهما: المراد منها ذوات الأزواج، وعلى هذا التقدير ففي قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } وجهان: الأول: أن المرأة اذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها، إلا اذا صارت ملكا لانسان فانها تحل للمالك، الثاني: أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا اذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن، والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة، وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك.

القول الثاني: أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } [النساء: 25] ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر، فكذا ههنا. وعلى هذا التقدير ففي قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } وجهان: الأول: المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، فصار التقدير: حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، الثاني: الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة، فهذا الأول في تفسير قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } هو المختار، ويدل عليه قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } [المعارج: 29 ـ 30] جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها، فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك، لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق الى الصدق والصواب،والله أعلم.

المسألة الخامسة: اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الاسلام وقعت الفرقة. أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه: ههنا تزول الزوجية، ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها، أو بالحيض. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تزول. حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء } يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل، قال أبو بكر الرازي: لو حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها، ومعلوم أنه ليس كذلك، فيقال له: كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي، وأيضا: فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى، فظهر الفرق.

المسألة السادسة: مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق، وعليه إجماع الفقهاء اليوم، وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس: إنها إذا بيعت طلقت. حجة الجمهور: أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مزوجة، ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة. ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "بيع الأمة طلاقها" وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ } وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم. ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله: { كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } وفيه وجهان: الأول: أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } يدل على معنى الكتبة فالتقدير: كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ } [النمل: 88] الثاني: قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر، ويكون «عليكم» مفسرا له فيكون المعنى: الزموا كتاب الله.

ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { وَأُحِلَّ لَكُمْ } على ما لم ُيسَمَّ فاعِلُه،عطفا على قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على { كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها.

المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة. إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها.

الصنف الأول: لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وهذا خبر مشهور مستفيض، وربما قيل: إنه بلغ مبلغ التواتر، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز. الثاني: من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال: بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فان لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب، وأيضا فانه قال: فان لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة «إن» وهي للاشتراط، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط. الثالث: أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه" فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب، فاذا كان خبر العمة والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده. الرابع: أن قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } مع قوله عليه السلام: لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه: إما أن يقال: الآية نزلت بعد الخبر، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص، وإما أن يقال: الخبر ورد بعد الكتاب، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، وإما أن يقال: وردا معا، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.

الوجه الخامس: أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر. وبيانه من وجهين: الأول: أن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } نص صريح في التحليل كما أن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } نص صريح في التحريم. وأما قوله: "لا تنكح المرأة على عمتها" فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار، وحمل الاخبار على النهي مجاز، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة. الثاني: أن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات، وقوله: " لا تَنْكِحَ المرأة على عمتها" ليس صريحا في العموم، بل احتماله للمعهود السابق أظهر.

الوجه السادس: أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب.

والجواب على وجوه: الأول: ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم، وهو أن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأبيد، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب، والدليل عليه أن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأبيد أم لا، والدليل على أنه لا يفيد التأبيد: أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد، فيقال تارة: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } أبداً، وأخرى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } إلى الوقت الفلاني، ولو كان قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا، ولأن قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له، فهذا وجه حسن معقول مقرر. وبهذا الطريق نقول أيضا: إن قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } [النساء: 23] ليس نصا في تأبيد هذا التحريم، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا من هذا اللفظ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع.

الوجه الثاني: انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة، وبين الحالتين منافرة عظيمة، فثبت أن كونها أختاً لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح، وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له، يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله: { { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاْخْتَيْنِ } [النساء: 23] يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة، بل ههنا أولى، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة، فكان قوله: { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاْخْتَيْنِ } مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى. الثاني: أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال: { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ } [النساء: 23] ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام: { { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ } [البقرة: 133] فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما، وإذا كان العم أباً لزم أن تكون العمة أماً، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [يوسف: 100] والمراد أبوه وخالته، فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، فكان قوله: { وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ } متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه.

وإذا عرفت هذا فنقول: قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية، أو بدلالة خفية، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات.

الوجه الثالث: في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول: قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } عام، وقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» خاص، والخاص مقدم على العام، ثم ههنا طريقان: تارة نقول: هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز، وعندي هذا الوجه كالمكابرة، لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد. وتارة نقول: تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز، وتقريره مذكور في الأصول، فهذا جملة الكلام في هذا الباب، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول.

الصنف الثالث: من التخصيصات الداخلة في هذا العموم: أن المطلقة ثلاثا لا تحل، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة: 230].

الصنف الرابع: تحريم نكاح المعتدة، ودليله قوله تعالى: { وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء } [البقرة: 228].

الصنف الخامس: من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة، وهذا بالاتفاق. وعند الشافعي: القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ودليل هذا التخصيص قوله: { { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم } [النساء: 25] وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب.

الصنف السادس: يحرم عليه التزوج بالخامسة، ودليله قوله تعالى: { { مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } [النساء: 3]

الصنف السابع: الملاعنة: ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: "المتلاعنان لا يجتمعان أبداً" .

قوله تعالى: { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ }.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { أَن تَبْتَغُواْ } في محله قولان: الأول: أنه رفع على البدل من «ما» والتقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا، على قراءة من قرأ (وأحل) بضم الألف. ومن قرأ بالفتح كان محل «أن تبتغوا» نصبا. الثاني: أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل: لأن تبتغوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين، وقوله: { مُّحْصِنِينَ } أي متعففين عن الزنا، وقوله: { غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } أي غير زانين، وهو تكرير للتأكيد. قال الليث: السفاح والمسافحة الفجور، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال: دموع سوافح ومسفوحة، قال تعالى: { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [الانعام: 145] وفلان سفاح للدماء أي سفاك، وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة.

فان قيل: أين مفعول تبتغوا؟

قلنا: التقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوهن، أي تبتغوا ما وراء ذلكم، فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم.

المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا مهر أقل من عشرة دراهم، وقال الشافعي رضي الله عنه: يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه. احتج أبو حنيفة بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد، وهو الابتغاء بأموالهم، والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا، فوجب أن لا يصح جعلها مهرا.

فان قيل: ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال، مع أنكم تجوزون كونها مهرا.

قلنا: ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية، إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه، فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية.

واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف، لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز، وليس فيها دلالة على أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز، إلا على سبيل المفهوم، وأنتم لا تقولون به. ثم نقول: الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه:

الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية، وذلك لأن قوله: { بِأَمْوٰلِكُمْ } مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء، فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير.

الحجة الثانية: التمسك بقوله تعالى: { { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور، وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم، وأنتم لا تقولون به.

الحجة الثالثة: الأحاديث: منها ما روي أن امرأة جيء بها الى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج بها رجل على نعلين، فقال عليه الصلاة والسلام: "رضيت من نفسك بنعلين" فقالت: نعم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم، فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر، ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا. ومنها ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل" ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها: "التمس ولو خاتما من حديد" وذلك لا يساوي عشرة دراهم.

المسألة الثالثة: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها، ثم قال: اذا تزوج امرأة على خدمته سنة، فان كان حراً لها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي رحمة الله عليه: يجوز جعل ذلك مهرا، احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه: الأول: هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال، والمال اسم للأعيان لا للمنافع، الثاني: قال تعالى: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4] وذلك صفة الأعيان.

أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز، وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا، وعن الثاني: أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة، وعن الثالث: أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب، ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه:

الحجة الأولى: قوله تعالى في قصة شعيب: { { إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ } [القصص: 27] جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء الى أن يطرأ الناسخ.

الحجة الثانية: ان التي وهبت نفسها، لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا، قال عليه الصلاة والسلام: "هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا، قال زوجتكها بما معك من القرآن" والله أعلم.

المسألة الرابعة: قال أبو بكر الرازي: دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها، لأن الآية تقتضي كون البضع مالا، وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، فذاك من خواص الرسول عليه السلام.

المسألة الخامسة: قوله: { مُّحْصِنِينَ } فيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح، والثاني: أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } والأول أولى، لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى، وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة، لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين، والمعلق على المجمل يكون مجملا، وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا.

قوله تعالى: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً }.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: الاستمتاع في اللغة الانتفاع، وكل ما انتفع به فهو متاع، يقال: استمتع الرجل بولده، ويقال فيمن مات في زمان شبابه: لم يتمتع بشبابه. قال تعالى: { { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [الأنعام: 128] وقال: { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [الأحقاف: 20] يعني تعجلتم الانتفاع بها، وقال: { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـٰقِكُمْ } [التوبة: 69] يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا. وفي قوله: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } وجهان: الأول: فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن، فآتوهن أجورهن عليه، ثم أسقط الراجع إلى «ما» لعدم الالتباس كقوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ } [الشورى: 43] فأسقط منه. والثاني: أن يكون «ما» في قوله: { مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } بمعنى النساء و«من» في قوله: { مِنْهُنَّ } للتبعيض، والضمير في قوله: { بِهِ } راجع إلى لفظ { مَا } لأنه واحد في اللفظ، وفي قوله: { فآتوهن أجورهن } إلى معنى «ما» لأنه جمع في المعنى، وقوله: { أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن، قال تعالى: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله: { { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء: 25] وهي المهور، وكذا قوله: { فآتوهن أجورهن } ههنا، وقال تعالى في آية أخرى: { { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [الممتحنة: 10] وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع، وليس ببدل من الأعيان، كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا،والله أعلم.

المسألة الثانية: قال الشافعي: الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة تقرره. واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن، ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن، فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع، وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع، والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع، فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر.

المسألة الثالثة: في هذه الآية قولان: أحدهما: وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله: { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ } المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح، وقوله: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر.

والقول الثاني: أن المراد بهذه الآية حكم المتعة، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها، واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الاسلام، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة، فشكا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طول العزوبة فقال: "استمتعوا من هذه النساء" ، واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا؟ فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة، وقال السواد منهم: إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين، أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات: احداها: القول بالاباحة المطلقة، قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة: أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي متعة كما قال تعالى، قلت: هل لها عدة؟ قال نعم عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان؟ قال لا.

والرواية الثانية عنه: أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس: قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق، لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له.

والرواية الثالثة: أنه أقر بأنها صارت منسوخة. روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { { يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] وروي أيضا أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب اليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فانه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها، ومات ولم ينهنا عنه، ثم قال رجل برأيه ما شاء. وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي، وروى محمد بن علي المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة، فقال أمير المؤمنين: إنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية، فهذا ما يتعلق بالروايات. واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه: الأول: أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } [المعارج: 29، 30] وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة، وليست أيضا زوجة، ويدل عليه وجوه: أحدها: لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوٰجُكُمْ } [النساء: 12] وبالاتفاق لا توارث بينهما، وثانيها: ولثبت النسب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش" وبالاتفاق لا يثبت، وثالثها: ولوجبت العدة عليها، لقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة: 234] واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر.

الحجة الثانية: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما، ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد، فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال: انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها. فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك، والأول هو المطلوب، والثاني يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم باباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا. وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله: { { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران: 110].

والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام.

فان قيل: ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته، ولا شك أن الرجم غير جائز، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل.

قلنا: لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة، ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله" ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز، لكنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للمبالغة في الزجر، فكذا ههنا والله أعلم.

الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة: ما روى مالك عن الزهري عن عبدالله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الانسية. وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: "يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "متعة النساء حرام" وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط، وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ، ومجرد النكاح ليس كذلك، أما القائلون باباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه.

الحجة الأولى: التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى: { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان:

الطريق الأول: أن قول: نكاح المتعة داخل في هذه الآية، وذلك لأن قوله: { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ } يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد، ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت، وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ } يقتضي حل القسمين، وذلك يقتضي حل المتعة.

الطريق الثاني: أن نقول: هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة، وبيانه من وجوه: الأول: ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ { فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فآتوهن أجورهن } وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس، والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة، وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا، وكذا ههنا، واذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب. الثاني: أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال، ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن، وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء، ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة، فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد، ومع الولي والشهود، ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل، فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة. الثالث: أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع، والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع، فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة، بل على النكاح، ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر، فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ. ومجرد النكاح ليس كذلك. الرابع: أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة، لأنه تعالى قال في أول هذه السورة: { { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } [النساء: 3] ثم قال: { { وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً } [النساء: 4] أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا، فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم.

الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة: أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الاسلام، ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه، إنما الخلاف في طريان الناسخ، فنقول: لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر، أو بالآحاد، فان كان معلوما بالتواتر، كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب تكفيرهم، وهو باطل قطعا، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل، لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر، كان ثبوته معلوما قطعا، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعاً للمقطوع وإنه باطل. قالوا: ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر، وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر، وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر، لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ، وقول من يقول: انه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف، لم يقل به أحد من المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات.

الحجة الثالثة: ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنهما: متعة الحج، ومتعة النكاح، وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نسخه، وإنما عمر هو الذي نسخه. وإذا ثبت هذا فنقول: هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام ما نسخه، وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما نسخه الرسول، يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال: ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء، يريد أن عمر نهى عنها، فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة.

والجواب عن الوجه الأول أن نقول: هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله: { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ } ثم قال في آخر الآية: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم، لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح، فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح. الثاني: أنه قال: { مُّحْصِنِينَ } والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح. والثالث: قوله: { غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ } سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء، ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح، والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا، هذا ما قاله أبو بكر الرازي. أما الذي ذكره في الوجه الأول: فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن، ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف، فأي فساد في هذا الكلام؟ وأما قوله ثانياً: الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا، وأما قوله ثالثاً: الزنا إنما سمي سفاحا، لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء، والمتعة ليست كذلك، فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله، فان قلتم: المتعة محرمة، فنقول: هذا أول البحث، فلم قلتم: إن الأمر كذلك، فظهر أن الكلام رخو، والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول: إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة، إنما الذي نقوله: إنها صارت منسوخة، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس، فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إنما الذي نقوله: إن النسخ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا، وقولهم: الناسخ إما أن يكون متواتراً أو آحادا.

قلنا: لعل بعضهم سمعه ثم نسيه، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له.

قوله: إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه.

قلنا: قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه، ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه، وكل ذلك باطل، فلم يبق إلا أن يقال: كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه صلى الله عليه وسلم نسخها، وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم.

ثم قال تعالى: { فآتوهن أجورهن فريضة } والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة، وذكر صاحب «الكشاف» في قوله: { فَرِيضَةً } ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة. وثانيها: أنها وضعت موضع إيتاء، لأن الايتاء مفروض. وثالثها: أنه مصدر مؤكد، أي فرض ذلك فريضة.

ثم قال تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا: المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين، فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية، فعلى هذا: المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه، وهو كقوله تعالى: { { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4] وقوله: { { إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَٱلَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنّكَاحِ } [البقرة: 237] وقال الزجاج معناه: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها، أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول. وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا: المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل ألبتة، فان قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة كانت المرأة بالخيار، إن شاءت فعلت، وإن شاءت لم تفعل، فهذا هو المراد من قوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل.

المسألة الثانية: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إلحاق الزيادة في الصداق جائز، وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة، وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي رحمة الله عليه: الزيادة بمنزلة الهبة، فإن أقبضها ملكته بالقبض، وإن لم يقبضها بطلت. احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ } يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان، فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق، قال: بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما، والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج، والزيادة لا تصح إلا بقبوله، فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة.

والجواب: لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج؟ وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول، فإن شاءت المرأة أبرأته عن النصف، وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر، وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها، وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة. والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول، أو بعد زوال العقد، والأول باطل، لأن العقد لما انعقد على القدر الأول، فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني، لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته، وذلك يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول، فثبت فساد ما قالوه والله أعلم. ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال، بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا، وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة، وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم.

النوع السابع: من التكاليف المذكورة في هذه السورة قوله تعالى.