التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
-النساء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن قوله: { وَإِن مّنكُمْ } يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } واختلفوا على قولين: الأول: المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فان قيل: قوله: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } تقديره: يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن، فاذا كان هذا المبطىء منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله: { وَإِن مّنكُمْ }.

والجواب من وجوه: الأول: أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط. الثاني: أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الايمان. الثالث: كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله: { { وَقَالُواْ يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ } [الحجر: 6].

القول الثاني: أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين قالوا: والتبطئة بمعنى الابطاء أيضاً، وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: ما أبطأ بك يا فلان عنا، وإدخالهم الباء يدل على أنه في نفسه غير متعد، فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطىء عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد، فاذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة، وإن أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين. قال: وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } [التوبة: 38] قال: والذي يدل على أن المراد بقوله: { لَّيُبَطّئَنَّ } الابطاء منهم لا تثبيط غيرهم، ما حكاه تعالى من قولهم: { يٰلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ } عند الغنيمة، ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى. وطعن القاضي في هذا القول وقال: إنه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين: { قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى، ومثل هذا الكلام انما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين، وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم: { كَأَن لَّمْ تَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ } يعني الرسول: { مَّوَدَّةَ } فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين، وإنما يمكن حمله على المنافقين، ثم قال: فإن حمل على أنه من الابطاء والتثاقل صح في المنافقين، لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه، وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم، فقد كان يثبطون كثيراً من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس، فكلا الوصفين موجود في المنافقين، وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير، فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ، فجعلوا الأول لازما، والثاني متعدياً، كما يقال في أحب وحب، فان الأول لازم والثاني متعد.

المسألة الثانية: قال الزجاج: «من» في قوله: { لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } موصولة بالحال للقسم كأن هذا لو كان كلاما لك لقلت إن منكم لمن حلف بالله ليبطئن.

ثم قال تعالى: { فَإِنْ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش. يعني لم أكن معهم شهيداً حاضراً حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة { وَلَئِنْ أَصَـٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله } من ظفر وغنيمة ليقولن: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة، والباقون بالياء لتقدم الفعل. قال الواحدي: وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل. قال: { قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } [يونس: 57] وقال في آية أخرى: { { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ } [البقرة: 275] فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي، سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل.

المسألة الثانية: قرأ الحسن { لَّيَقُولَنَّ } بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى «من» لأن قوله: { لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } في معنى الجماعة، إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن «من» وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ، وجانب الافراد قد ترجح في قوله: { { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَىَّ } [النساء: 72] وفي قوله: { يٰلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }.

المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: لو كان التنزيل هكذا: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا، فكيف وقع قوله: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } في البين؟

وجوابه: أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن، بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم، ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة، ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو، لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه، فأما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أن يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } والمراد التعجب كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا، فهذا هو المراد من الكلام، وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن.