التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٣
أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
-الأحقاف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة فصلت والفرق بين الموضعين أن في سورة فصلت ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون { { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30] وهٰهنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة، وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة.

واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن، ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد، ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى: { { يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } [النحل: 50] وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [الأنبياء: 103].

ثم قال تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على مسائل أولها: قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } وهذا يفيد الحصر، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها: قوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وهذا يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء وثالثها: أن قوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها: أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر، أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها: كون العبد مستحقاً على الله تعالى، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين، لا جرم أردفه بهذا المعنى، فقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي { بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً } والباقون { حَسَنًا }.

واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح، فمن قرأ { إِحْسَـٰناً } فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل { { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء: 43] والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت { { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت: 8] ولم يختلفوا فيه، والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً، إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة، كما يقال: هذا الرجل علم وكرم، وانتصب حسناً على المصدر، لأن معنى { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ } أمرناه أن يحسن إليهما إِحساناً.

ثم قال تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي { كُرْهاً } بضم الكاف، والباقون بفتحها، قيل هما لغتان: مثل الضعف والضعف، والفقر والفقر، ومن غير المصادر: الدف والدف، والشهد والشهد، قال الواحدي: الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه، والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى: { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216] فهذا بالضم، وقال: { { أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } [النساء: 19] فهذا في موضع الحال، ولم يقرأ الثانية بغير الفتح، فما كان مصدراً أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن، وما كان اسماً نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن.

المسألة الثانية: قال المفسرون. حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة، وليس يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، وقد قال تعالى: { { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } [الأعراف: 189] يريد ابتداء الحمل، فإن ذلك لا يكون مشقة، فالحمل نطفة وعلقة ومضغة، فإذا أثقلت فحينئذ { حَمَلَتْهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } يريد شدة الطلق.

المسألة الثالثة: دلت الآية على أن حق الأم أعظم، لأنه تعالى قال أولاً: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } فذكرهما معاً، ثم خص الأم بالذكر، فقال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر، والأخبار مذكورة في هذا الباب.

ثم قال تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: هذا من باب حذف المضاف، والتقدير ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن، فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام، فكيف عبّر عنه بالفصال؟ قلنا: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه، لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالاً.

المسألة الثانية: دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، قال: { { وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي: لا رجم عليها، وذكر الطريق الذي ذكرناه، وعن عثمان أنه هم بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك.

واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضاً على أن الأمر كذلك، قال أصحاب التجارب: إن لتكوين الجنين زماناً مقدراً، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين، فإذا انضاف إلى ذلك المجموع مثلاه انفصل الجنين عن الأم، فلنفرض أنه يتم خلقه في ثلاثين يوماً، فإذا تضاعف ذلك الزمان حتى صار ستين تحرك الجنين، فإذا تضاعف إلى هذا المجموع مثلاه وهو مائة وعشرون حتى صار المجموع مائة وثمانين وهو ستة أشهر، فحينئذ ينفصل الجنين، فلنفرض أنه يتم خلقه في خمسة وثلاثين يوماً فيتحرك في سبعين يوماً، فإذا انضاف إليه مثلاه وهو مائة وأربعون يوماً صار المجموع مائة وثمانين وعشرة أيام، وهو سبعة أشهر انفصل الولد، ولنفرض أنه يتم خلقه في أربعين يوماً، فيتحرك في ثمانين يوماً، فينفصل عند مائتين وأربعين يوماً، وهو ثمانية أشهر، ولنفرض أنه تمت الخلقة في خمسة وأربعين يوماً، فيتحرك في تسعين يوماً، فينفصل عند مائتين وسبعين يوماً، وهو تسعة أشهر، فهذا هو الضبط الذي ذكره أصحاب التجارب. قال جالينوس: إن كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل، فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة، وزعم أو علي بن سينا أنه شاهد ذلك، فقد صار أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن، وبحسب التجارب الطيبة شيئاً واحداً، وهو ستة أشهر، وأما أكثر مدة الحمل، فليس في القرآن ما يدل عليه، قال أبو علي بن سينا: في الفصل السادس من المقالة التاسعة من عنوان الشفاء، بلغني من حيث وثقت به كل الثقة، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش. وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال: أزمنة الولادة، وحبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان، فربما وضعت الحبلى لسبعة أشهر، وربما وضعت في الثامن، وقلما يعيش المولود في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، والغالب هو الولادة بعد التاسع. قال أهل التجارب: والذي قلناه من أنه إذا تضاعف زمان التكوين تحرك الجنين، وإذا انضم إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين، إنما قلناه بحسب التقريب لا بحسب التحديد، فإنه ربما زاد أو نقص بحسب الأيام، لأنه لم يقم على هذا الضبط برهان، إنما هو تقريب ذكروه بحسب التجربة، والله أعلم.

ثم قال المدة التي فيها تتم خلقة الجنين تنقسم إلى أقسام فأولها: أن الرحم إذا اشتملت على المني ولم تقذفه إلى الخارج استدار المني على نفسه منحصراً إلى ذاته وصار كالكرة، ولما كان من شأن المني أن يفسده الحركات، لا جرم يثخن في هذا الوقت وبالحري أن خلق المني من مادة تجف بالحر إذا كان الغرض منه تكون الحيوان واستحصاف أجزائه ويصير المني زبداً في اليوم السادس وثانيها: ظهور النقط الثلاثة الدموية فيه إحداها: في الوسط وهو الموضع الذي إذا تمت خلقته كان قلباً والثاني: فوق وهو الدماغ والثالث: على اليمين وهو الكبد، ثم إن تلك النقط تتباعد ويظهر فيما بينها خيوط حمر، وذلك يحصل بعد ثلاثة أيام أخرى فيكون المجموع تسعة أيام وثالثها: أن تنفذ الدموية في الجميع فيصير علقة وذلك بعد ستة أيام أخرى حتى يصير المجموع خمسة عشر يوماً ورابعها: أن يصير لحماً وقد تميزت الأعضاء الثلاثة، وامتدت رطوبة النخاع، وذلك إنما يتم باثني عشر يوماً فيكون المجموع سبعة وعشرين يوماً وخامسها: أن ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن يميز الحس في بعض ويخفى في بعض وذلك يتم في تسعة أيام أخرى فيكون المجموع ستة وثلاثين يوماً وسادسها: أن يتم انفصال هذه الأعضاء بعضها عن بعض ويصير بحيث يظهر ذلك الحس ظهوراً بيناً، وذلك يتم في أربعة أيام أخرى فيكون المجموع أربعين يوماً وقد يتأخر إلى خمسة وأربعين يوماً قال والأقل هو الثلاثون، فصارت هذه التجارب الطبية مطابقة لما أخبر عنه الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً" قال أصحاب التجارب إن السقط بعد الأربعين إذا شق عنه السلالة ووضع في الماء البارد ظهر شيء صغير متميز الأطراف.

المسألة الثالثة: هذه الآية دلّت على أقل الحمل وعلى أكثر مدة الرضاع، أما أنها تدل على أقل مدة الحمل فقد بيناه، وأما أنها تدل على أكثر مدة الرضاع فلقوله تعالى: { { وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] والفقهاء ربطوا بهذين الضابطين أحكاماً كثيرة في الفقه، وأيضاً فإذا ثبت أن أقل مدة الحمل هو الأشهر الستة، فبتقدير أن تأتي المرأة بالولد في هذه الأشهر يبقى جانبها مصوناً عن تهمة الزنا والفاحشة وبتقدير أن يكون أكثر مدة الرضاع ما ذكرناه، فإذا حصل الرضاع بعد هذه المدة لا يترتب عليها أحكام الرضاع فتبقى المرأة مستورة عن الأجانب، وعند هذا يظهر أن المقصود من تقدير أقل الحمل ستة أشهر وتقدير أكثر الرضاع حولين كاملين السعي في دفع المضار والفواحش وأنواع التهمة عن المرأة، فسبحان من له تحت كل كلمة من هذا الكتاب الكريم أسرار عجيبة ونفائس لطيفة، تعجز العقول عن الإحاطة بكمالها.

وروى الواحدي في «البسيط» عن عكرمة أنه قال إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً، وإذا حملت ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهراً، والصحيح ما قدمناه.

ثم قال تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى والِدَيَّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اختلف المفسرون في تفسير الأشد، قال ابن عباس في رواية عطاء يريد ثماني عشرة سنة والأكثرون من المفسرين على أنه ثلاثة وثلاثون سنة، واحتج الفراء عليه بأن قال أن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمانية عشر، ألا ترى أنك تقول أخذت عامة المال أو كله، فيكون أحسن من قولك أخذت أقل المال أو كله، ومثله قوله تعالى: { { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } [المزمل: 20] فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا هٰهنا، وقال الزجاج الأولى حمله على ثلاث وثلاثين سنة لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان، وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال إن مراتب سن الحيوان ثلاثة، وذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية، ولا شك أن الرطوبة الغريزية غالبة في أول العمر وناقصة في آخر العمر، والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين، فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام أولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها وللزيادة بحسب الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشوء والنماء.

والمرتبة الثانية: وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان وهذا هو سن الوقوف وهو سن الشباب.

والمرتبة الثالثة: وهي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول: هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة والثاني: هو النقصان الظاهر وهو سن الشيخوخة، فهذا ضبط معلوم. ثم ههنا مقدمة أخرى وهي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية وعشرين يوماً وشيء، فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة، ولهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم، إذا عرفت هذا فنقول إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء والنشوء إلى أربعة أسابيع ويحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بعض الصلابة، وتقوى أفعاله أيضاً بعض القوة، وتتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية وتكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك، وأما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة وتقل الرطوبات وتتسع المجاري وتقوى قوة الهضم وتقوى الأعضاء وتصلب قوة وصلابة كافية ويتولد فيه مادة الزرع، وعند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول الشافعي رضي الله عنه، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات واعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر والذكر، فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل، فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ وتوجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعي بخمس عشرة سنة.

واعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن أحدها: انفراق طرف الأرنبة لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق وثانيها: نتوء الحنجرة وغلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتوء ويغلظ الصوت وثالثها: تغير ريح الإبط وهي الفضلة العفينة التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع وذلك لأن القلب لما قويت حرارته، لا جرم قويت على إنضاج المادة، ودفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط ورابعها: نبات الشعر وحصول الاحتلام، وكل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر وعلى توليد مادة الزرع، وفي هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا وينهد ثديهن وينزل حيضهن وكل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع، وأما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال وينبت للذكر اللحية ويزداد حسنه وكماله، وأما في السابوع الرابع فلا تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة، وعند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد، أما مدة سن الشباب وهي مدة الوقوف السابوع واحد فيكون المجموع خمسة وثلاثين سنة. ولما كانت هذه المدة إما قد تزداد، وإما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة. وهذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعاً وطباً، فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون وتنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها، وتبتدىء أفعال القوة النفسانية بالقوة والكمال، وإذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء وبلوغه إلى الأربعين شيء آخر، فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء، وأن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب، ومن ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتقاص، وتأخذ القوة العقلية والنطقية في الاستكمال وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن، فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص، والنفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال، ولو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال والنقصان وذلك محال، وهذا الكلام الذي ذكرناه ولخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن، لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية والحيوانية، وأما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية والعقلية فإنها تبتدىء بالاستكمال، والدليل عليه قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَيَّ } فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت، وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدىء بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة، قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة، وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول: اللّهم أوزعني أن أشكر نعمتك إليّ تمام الدعاء، وروي أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يؤمر الحافظان أن أرفقا بعبدي من حداثة سنه، حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا وحققا" فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في «التفسير».

المسألة الثانية: اعلم أن قوله { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة، وذلك لأن العقل كالناقص، فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات، وفيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة، وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل.

المسألة الثالثة: حكى الواحدي عن ابن عباس وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصاً واحداً حتى يقال إن هذا التقدير اخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر.

ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَيَّ } ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنساناً معيناً قال هذا القول، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن، لأنه كان أقل سناً من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريباً من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر، وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول: ندعي أنه هو المراد من هذه الآية، ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ فِي أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم، وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي، ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين، وعلي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا، فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر، والله أعلم.

المسألة الرابعة: قوله تعالى: { أَوْزِعْنِي } قال ابن عباس معناه ألهمني، قال صاحب «الصحاح» أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به، واستوزعت الله شكره، فأوزعني أي استلهمته فألهمني.

المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء: أحدها: أن يوفقه الله للشكر على نعمه والثاني: أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله الثالث: أن يصلح له في ذريته، وفي ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان: الأول: أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة أكملها النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية والسعادات النفسانية هي اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه، والسعادات البدنية هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة، والسعادات الخارجية هي سعادة الأهل والولد، فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه.

والسبب الثاني: لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل، لأن الشكر من أعمال القلوب، والعمل من أعمال الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجارحة، وأيضاً المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى: { { وأقم الصلاة لذكري } [طه: 14] بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر، فثبت أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، والأشرف يجب تقديمه في الذكر، وأيضاً الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية، والاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة، وقضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين، وطلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد. ومعلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات، فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات، وأيضاً أنه قدم طلب التوفيق على الشكر، وطلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته، وذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر الله، والمطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق الله، ومعلوم أن التعظيم لأمر الله يجب تقديمه على الشفقة على خلق الله.

المسألة السادسة: قال أصحابنا إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى، ولو كان العبد مستقلاً بأفعاله لكان هذا الطلب عبثاً، وأيضاً المفسرون قالوا المراد من قوله { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } هو الإيمان أو الإيمان يكون داخلاً فيه، والدليل عليه قوله تعالى: { { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 6، 7] والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر الله على نعمة الإيمان، فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكراً لله تعالى على فعله لا على فعل غيره، وذلك قبيح لقوله تعالى: { { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [آل عمران: 188] فإن قيل: فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم بها على والديه؟ وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم، قلنا كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه، فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين.

وأما المطلوب الثاني: من المطالب المذكورة في هذا الدعاء، فهو قوله { وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ }.

واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحاً على قسمين: أحدهما: الذي يكون صالحاً عنده ويكون صالحاً أيضاً عند الله تعالى والثاني: الذي يظنه صالحاً ولكنه لا يكون صالحاً عند الله تعالى، فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحاً عند الله ويكون مرضياً عند الله.

والمطلوب الثالث: من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام: { { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] فإن قيل ما معنى { فِي } في قوله { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيَّتِي }؟ قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم.

واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة، قال بعد ذلك { إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح، وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه.

واعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر، قالوا إن أبا بكر أسلم والداه، ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلا له، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وقوله { وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ } قال ابن عباس فأجابه الله إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يترك شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه، وقوله تعالى: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيَّتِي } قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا، ولم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه وجميع أولاده الذكور والإناث إلا لأبي بكر.

ثم قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ } أي أهل هذا القول { ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } قرىء بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرىء بالنون المفتوحة، وكذلك نتجاوز وكلاهما في المعنى واحد، لأن الفعل وإن كان مبنياً للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه وتعالى، فهو كقوله { { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] فبيّن تعالى بقوله { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء، ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها { نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله، فإن قيل ولم قال تعالى: { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } والله يتقبل الأحسن وما دونه؟ قلنا الجواب من وجوه الأول: المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى: { { وَٱتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُـمْ } [الزمر: 55] كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، أي عادلا بني مروان الثاني: أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك، وهو وكل ما كان مندوباً واجباً.

ثم قال تعالى: { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَـٰتِهِمْ } والمعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. ثم قال: { فِي أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } قال صاحب «الكشاف» ومعنى هذا الكلام مثل قولك: أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم وضمني في عدادهم، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين منهم، وقوله { وَعْدَ ٱلصّدْقِ } مصدر مؤكد، لأن قوله { نتقبل، نتجاوز } وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز، والمقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله تعالى فبيّن أنه صدق ولا شك فيه.