التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٦٧
-المائدة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

قوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال { بَلَغَ } أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم. وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني، فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أي لا تراقبن أحداً، ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه.

ثم قال تعالى: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع { رسالاته } في هذه الآية وفي الأنعام { { حَيْثُ يَجْعَلُ رسالتَه } [الأنعام: 124] على الجمع، وفي الأعراف { { بِرِسَـٰلَـٰتِي } [الأعراف: 144] على الواحد، وقرأ حفص عن عاصم على الضد، ففي المائدة والأنعام على الواحد، وفي الأعراف على الجمع، وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع.

حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة، وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع، وأما من أفرد فقال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضاً فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله { وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان: 14] فوقع الاسم الواحد على الجمع، وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن قوله { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، فأي فائدة في هذا الكلام؟

أجاب جمهور المفسرين بأن المراد: أنك إن لم تبلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع، فسقط هذا الجواب.

والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله:

أنا أبو النجم وشعري شعري

ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه: إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا ههنا: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ما يعني أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم.

المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً: الأول: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود. الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنبي سكت عنهم، فنزلت هذه الآية. الثالث: لما نزلت آية التخيير، وهو قوله { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَزْوٰجِكَ } [الأحزاب: 28] فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدينا فنزلت. الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش. قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ } ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله { { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } [الأحزاب: 37] الخامس: نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحياناً عن حثهم على الجهاد. السادس: لما نزل قوله تعالى: { { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108] سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت هذه الآية وقال { بَلَغَ } يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، والله يعصمك منهم. السابع: نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك (هل بلغت) قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: "الّلهم فاشهد" الثامن: روي أنه صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها، فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال «الله» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس. التاسع: كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية. العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه الّلهم وال من والاه وعاد من عاداه" فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.

واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها.

المسألة الرابعة: في قوله { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } سؤال، وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟

والجواب من وجيهن: أحدهما: أن المراد يعصمه من القتل، وفيه التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد.

واعلم أن المراد من { ٱلنَّاسِ } ههنا الكفار، بدليل قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ }

ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون، وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: "انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس" .