التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
-الأنعام

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

في هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال صاحب «الكشاف»: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } عطف على قوله: { قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءَازَرَ } وقوله: { وَكَذَلِكَ نُرِى } جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه.

المسألة الثانية: قال الواحديرحمه الله : يقال جن عليه الليل وأجنه الليل، ويقال: لكل ما سترته جن وأجن، ويقال أيضاً جنه الليل، ولكن الاختيار جن عليه الليل، وأجنه الليل. هذا قول جميع أهل اللغة، ومعنى { جَنَّ } ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن، وهو المقبور. والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، وقال بعض النحويين: { جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } إذا أظلم عليه الليل. ولهذا دخلت «على» عليه كما تقول في أظلم. فأما جنه فستره من غير تضمين معنى { أَظْلَمَ }.

المسألة الثالثة: اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد، فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام، فكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له رباً، فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك، فقال للأب: ومن ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئاً يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء. فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه، ومنهم من قال: إن هذا كان قبل البلوغ. واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه:

الحجة الأولى: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء.

الحجة الثانية: أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل. والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر: { { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَةً إِنّى أراك وقومك في ظلال مبين } [الأنعام: 74].

الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال: { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } [مريم: 42] وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش. ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام. فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مراراً وأطواراً، ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه. فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة.

الحجة الرابعة: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى، ومن كان منصبه في الدين كذلك، وعلمه بالله كذلك، كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب؟

الحجة الخامسة: أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهاً وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيباً من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلاً عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء؟

الحجة السادسة: أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام: { إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 84] وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليماً عن الكفر، وأيضاً مدحه فقال: { { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْرٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ } [الأنبياء: 51] أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة. وقوله: { وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ } أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى: { { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].

الحجة السابعة: قوله: { وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين.

ثم قال بعده: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } والفاء تقتضي الترتيب، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه.

الحجة الثامنة: أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه، والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } ولم يقل على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد. لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه.

الحجة التاسعة: أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار، وهذا باطل. لأنه لو كان الأمر كذلك، فكيف يقول { يا قوم إنى بَرِىء مما تشْرِكونَ } مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم.

الحجة العاشرة: قال تعالى: { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللَّهِ } وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم، وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم.

الحجة الحادية عشر: أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ } وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام، كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود: 54] ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار.

الحجة الثانية عشرة: أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم، ثم غربت، فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية، وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضاً في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه. أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم، فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير، فالسؤال غير وارد، فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم: هذا ربي. وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان: الأول: أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة. الأول: أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي، على سبيل الأخبار، بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وآلههم، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله، ومثاله: أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم، فيقول: الجسم قديم؟ فإذا كان كذلك، فلم نراه ونشاهده مركباً متغيراً؟ فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه، فكذا ههنا قال: { هَـٰذَا رَبّى } والمقصود منه حكاية قول الخصم، ثم ذكر غقيبه ما يدل على فساده وهو قوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب، والدليل عليه: أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ }.

والوجه الثاني في التأويل: أن نقول قوله: { هَـٰذَا رَبّى } معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء: أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى: { { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه: 97] وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُنَـادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكآءِيَ } [القصص: 62] وكان صلوات الله عليه يقول: "يا إله الآلهة" . والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال: { { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49] أي عند نفسك.

والوجه الثالث في الجواب: أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه.

والوجه الرابع: أن يكون القول مضمراً فيه، والتقدير: قال يقولون هذا ربي. وإضمار القول كثير، كقوله تعالى: { { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا } [البقرة: 127] أي يقولون ربنا وقوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] أي يقولون ما نعبدهم، فكذا ههنا التقدير: إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه: يقولون هذا ربي. أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني.

والوجه الخامس: أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوماً هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء.

الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة. وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر، ومعلوم أن عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى: { { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } [النحل: 106] فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضاً المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم، ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال. حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب، بل نقول: أن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء. فكذا ههنا أن إبراهيم عليه السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ومما يقوي هذا الوجه: أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله: { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [الصافات: 88 ـ 90] وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن، ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام، فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا. مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن، فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك؟ وأيضاً المتكلمون قالوا: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعى الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده، ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا. وقوله: { هَـٰذَا رَبّى } لا يوجب الضلال، لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزاً والله أعلم.

الوجه السابع: أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام { هَـٰذَا رَبّى } أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زماناً حتى أفل ثم قال: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ.

أما الاحتمال الثاني: وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية، فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم، فقال: { هَـٰذَا رَبّى } فلما شاهد حركته قال: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال: { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } فهذا الاحتمال لا بأس به، وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة، على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم.

المسألة الرابعة: قرأ أبو عمرو وورش عن نافع { رئي } بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما فإذا كان بعد الألف كاف أو هاء نحو: رآك ورآها فحينئذ يكسرها حمزة والكسائي ويفتحها ابن عامر. وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم مثل حمزة والكسائي فإذا تلته ألف وصل نحو: رأى الشمس، ورأى القمر. فإن حمزة ويحيى عن أبي بكر ونصر عن الكسائي يكسرون الراء ويفتحون الهمزة والباقون يقرؤن جميع ذلك بفتح الراء والهمزة، واتفقوا في رأوك، ورأوه أنه بالفتح. قال الواحدي: أما من فتح الراء والهمزة فعلته واضحة وهي ترك الألف على الأصل نحو: رعى ورمى. وأما من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسر ليميل الألف التي في رأى نحو الياء وترك الراء مفتوحة على الأصل. وأما من كسرهما جميعاً فلأجل أن تصير حركة الراء مشابهة لحركة الهمزة، والواحدي طول في هذا الباب في «كتاب البسيط» فليرجع إليه. والله أعلم.

المسألة الخامسة: القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة. وقال القاضي: كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم، وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي. وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم.

المسألة السادسة: أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون رباً له وخالقاً له. ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين: أحدهما: أن الأفول ما هو؟ والثاني: أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب؟ فنقول: الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره.

وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل، فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير، فيكون الطلوع أيضاً دليلاً على الحدوث، فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟

والجواب: لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل. ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق. أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم. وأيضاً قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الإمكان أفول، وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج: لا يكون مقطوع الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزهاً عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: { ٰ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 42] وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر. فلا يكون الآفل إلهاً بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.

وفيه دقيقة أخرى: وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين. ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعداً إلى وسط السماء كان قوياً عظيماً التأثير. أما إذا كان غريباً وقريباً من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة. فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي، يكون ضعيف القوة، ناقص التأثير، عاجزاً عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجباً للقدح في إلهيته، والله أعلم.

أما المقام الثاني: وهو بيان أن كون الكوكب آفلاً يمنع من ربوبيته. فلقائل أيضاً أن يقول: أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالاً على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه رباً لإبراهيم ومعبوداً له، ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها، ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل، فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أرباباً للإنسان وآلهة لهذا العالم. والجواب: لنا ههنا مقامان:

المقام الأول: أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات، ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها، وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثاً، فإنه يكون في وجوده محتاجاً إلى الغير. وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها، ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أرباباً وآلهة. بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها، فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أرباباً وآلهة بهذا التفسير.

المقام الثاني: أن يكون المراد من الرب والإله. من يكون خالقاً لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا. فنقول: أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه: الأول: أن أفولها يدل على حدوثها. وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية. وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر، ولزم التسلسل وهو محال، فثبت أن قادريته أزلية.

وإذا ثبت هذا فنقول: الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدوراً له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات. فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدوراً لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات، فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدروة لله تعالى.

وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينة في علم الأصول.

فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة، وأيضاً فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع، وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة. ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات، فأما التفريع والتفصيل، فذاك إنما يليق بعلم الجدل. فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع، فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أرباباً وآلهة لحوادث هذا العالم.

الوجه الثاني: أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار، فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب، ومن كان قادراً على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادراً على خلق الشيء الأضعف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { لَخَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57] وبقوله: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ } [يسۤ: 81] فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادراً على خلق البشر، وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر.

الوجه الثالث: أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة، لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب. أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكاً في معرفة خالقه. أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره، فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأرباباً للحيوان والإنسان. والله أعلم. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

فإن قيل: لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل، وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة.

والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد. فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء. فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف. ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل. فأعاد عليهم ذلك الكلام، وكذا القول في الشمس، فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.

المسألة السادسة: تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب، والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك، وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان، فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها، وزعم أن المراد من قوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر، ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود.

واعلم أن هذا الكلام لا بأس به. إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه، ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم، والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية، ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها، والله أعلم.

المسألة السابعة: دل قوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } على أحكام:

الحكم الأول

هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا أبداً فكان آفلاً أبداً، وأيضاً يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلا لحصل معنى الأفول.

الحكم الثاني

هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية، وإلا لكان متغيراً، وحينئذ يحصل معنى الأفول، وذلك محال.

الحكم الثالث

تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة.

الحكم الرابع

تدل هذه الآية على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال.

الحكم الخامس

تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة والله أعلم.

أما قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ }.

ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، وبزغت الشمس إذا بدأ منها طلوع. ونجوم بوازغ. قال الأزهري: كأنه مأخوذ في البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً، ومعنى الآية أنه اعتبر في القمر مثل ما اعتبر في الكوكب.

المسألة الثانية: دل قوله: { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالّينَ } على أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. ولا يمكن حمل لفظ الهداية على التمكن وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل. لأن كل ذلك كان حاصلاً، فالهداية التي كان يطلبها بعد حصول تلك الأشياء لا بد وأن تكون زائدة عليها.

واعلم أن كون إبراهيم عليه السلام على مذهبنا أظهر من أن يشتبه على العاقل لأنه في هذه الآية أضاف الهداية إلى الله تعالى، وكذا في قوله: { ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } وكذا في قوله: { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ }.

أما قوله: { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: إنما قال في الشمس هذا مع أنها مؤنثة، ولم يقل هذه لوجوه: أحدها: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل اللفظ على التأويل فذكر. وثانيها: أن الشمس لم يحصل فيها علامة التأنيث، فلما أشبه لفظها لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين، وثالثها: أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه، ورابعها: المقصود منه رعاية الأدب، وهو ترك التأنيث عند ذكر اللفظ الدال على الربوبية.

المسألة الثانية: قوله: { هَـٰذَا أَكْبَرُ } المراد منه أكبر الكواكب جرماً وأقواها قوة، فكان أولى بالآلهية.

فإن قيل: لما كان الأفول حاصلاً في الشمس والأفول يمنع من صفة الربوبية، وإذا ثبت امتناع صفة الربوبية للشمس كان امتناع حصولها للقمر ولسائر الكواكب أولى. وبهذا الطريق يظهر أن ذكر هذا الكلام في الشمس يغني عن ذكره في القمر والكواكب. فلم لم يقتصر على ذكر الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟

قلنا: إن الأخذ من الأدون فالأدون، مترقياً إلى الأعلى فالأعلى، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره، فكان ذكره على هذا الوجه أولى.

أما قوله: { قَالَ يَـا قَوْمِ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } فالمعنى أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية والإلهية، لا جرم تبرأ من الشرك.

ولقائل أن يقول: هب أنه ثبت بالدليل أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح للربوبية والإلهية لكن لا يلزم من هذا القدر نفي الشريك مطلقاً وإثبات التوحيد، فلم فرع على قيام الدليل على كون هذه الكواكب غير صالحة للربوبية الجزم بإثبات التوحيد مطلقاً.

والجواب: أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أرباباً ولا آلهة، وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق.

أما قوله: { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ } ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: فتح الياء من { وَجْهِىَ } نافع وابن عامر وحفص عن عاصم، والباقون تركوا هذا الفتح.

المسألة الثانية: هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره. بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره، فإنه يتوجه بوجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة.

وأما قوله: { لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ففيه دقيقة: وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السموات والأرض. بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله: { وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى } والمعنى: أن توجيه وجه القلب ليس إليه، لأنه متعال عن الحيز والجهة، بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته، فترك كلمة «إلى» هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود متعالياً عن الحيز والجهة، ومعنى فطر أخرجهما إلى الوجود، وأصله من الشق، يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما، وأما الحنيف فهو المائل قال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته، وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى.