التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
١٢٧
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
١٢٨
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه، بل خلى سبيله فقال قومه له: { أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ }.

واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله: { لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك.

أما قوله: { وَيَذَرَكَ } فالقراءة المشهورة فيه { وَيَذَرَكَ } بالنصب. وذكر صاحب «الكشاف»: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون قوله: { وَيَذَرَكَ } عطفاً على قوله: { لِيُفْسِدُواْ } لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. وثانيها: أنه جواب للاستفهام بالواو، وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة:

ألم أكُ جارَكم ويكون بيني وبينكم المودة والآخاءُ؟

والتقدير: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك. قال الزجاج: والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى؟ وثالثها: النصب بإضمار أن تقديره: أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك؟ قال صاحب «الكشاف»: وقرىء { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } بالرفع عطفاً على { أَتَذَرُ } بمعنى أتذره ويذرك؟ أي انطلق له، وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك؟ وقرأ الحسن { وَيَذَرَكَ } بالجزم، وقرأ أنس { ونذرك } بالنون والنصب، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها.

وأما قوله: { وَءالِهَتَكَ } قال أبو بكر الأنباري: كان ابن عمر ينكر قراءة العامة، ويقرأ إلاهتك أي عبادتك، ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، قال ابن عباس: أما قراءة العامة { وَءالِهَتَكَ } فالمراد جمع إله، وعلى هذا التقدير: فقد اختلفوا فيه. فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها. وقال: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام. وأقول: الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل. بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع، وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأما المجدي في هذا العلم للخلق، ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه، فقوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. وقوله: { { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنَ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } [القصص: 38] أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب، ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير: فلا امتناع في حمل قوله تعالى: { وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } على ظاهره، فهذا ما عندي في هذا الباب، والله أعلم.

واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام، وحبسه، وإنزال أنواع العذاب به، فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفاً من موسى عليه السلام. ولكنه قال: { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير { سَنُقَتِّلُ } بفتح النون والتخفيف، والباقون بضم النون والتشديد على التكثير. يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام.

المسألة الثانية: أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم. ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله:{ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ } والمقصود منه ترك موسى وقومه، لا من عجز وخوف، ولو أراد به البطش لقدر عليه، كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه. واختلف المفسرون، فمنهم من قال: كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى، ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: { ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ } وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون، والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه، فعند ذلك فال لقومه { ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ ُمِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين. أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما؛ فالأول: الاستعانة بالله تعالى. والثاني: الصبر على بلاء الله. وإنما أمرهم أولاً بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء الله تعالى وتقديره. واستعداده بمشاهدة قضاء الله، خفف عليه أنواع البلاء، وأما الذان بشر بهما؛ فالأول: قوله: { إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه، وذلك معنى الإرث، وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف. والثاني: قوله: { وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فقيل: المراد أمر الآخرة فقط، وقيل: المراد أمر الدنيا فقط وهو: الفتح، والظفر، والنصر على الأعداء، وقيل المراد مجموع الأمرين، وقوله: { لّلْمُتَّقِينَ } إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة.