التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٧
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة، قال سيبويه: أذن أعلم. وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى: { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ } [الأعراف: 44] وقوله: { تَأَذَّنَ } بمعنى أذن أي أعلم. ولفظة تفعل، ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئاً ليس فيه، بل معناه فعل فقوله: { تَأَذَّنَ } بمعنى أذن كما في قوله: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18] معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو، وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } ففيه بحثان:

البحث الأول: أن اللام في قوله: { لَيَبْعَثَنَّ } جواب القسم لأن قوله: { وَإِذْ تَأَذَّنَ } جار مجرى القسم في كونه جازماً بذلك الخبر.

البحث الثاني: الضمير في قوله: { عَلَيْهِمْ } يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله: { { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } [الأعراف: 166] لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف. ثم اختلفوا فقال بعضهم: المراد نسلهم والذين بقوا منهم. وقال آخرون: بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية، وقال الأكثرون: هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته، وهذا أقرب. لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وزجرهم عن البقاء على اليهودية، لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا.

البحث الثالث: لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية، فأما الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فخارجون عن هذا الحكم.

أما قوله: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا، وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم: هو أخذ الجزية. وقيل: الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ } وقيل: القتل والقتال. وقيل: الإخراج والإبعاد من الوطن، وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير، وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز، وأن الذل يلزمهم، والصغار لا يفارقهم. ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة. ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخباراً صدقاً عن الغيب، فكان معجزاً، والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح، فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ثم دانوا بإلهيته، فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر، وذلك خلاف هذه الآية. واحتج بعض العلماء على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ } [آل عمران: 112] إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال. أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء، فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جداً. واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم، فقال بعضهم: الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم، وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم. وهذا القائل حمل قوله: { لَيَبْعَثَنَّ } على نحو قوله: { { أَنَّا أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [مريم: 83] فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية، وترك المنع، فكذلك البعثة، وهذا القائل. قال: المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم، ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب من الكفر واليهودية، ودخل في الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم.