التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٥٧
وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
٥٨
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن في كيفية النظم وجهين: الأول: أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية. وكمال العلم، والقدرة من العالم العلوي، وهو السموات والشمس والقمر والنجوم، أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي. واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة: الآثار العلوية، والمعادن، والنبات، والحيوان، ومن جملة الآثار العلوية الرياح، والسحاب، والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات، وذلك هو المذكور في هذه الآية.

الوجه الثاني: في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم، أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { ٱلرّيحَ } على لفظ الواحد والباقون { ٱلرّيَاح } على لفظ الجمع، فمن قرأ { ٱلرّيَاح } بالجمع حسن وصفها بقوله: { بَشَرًا } فإنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ { ٱلرّيحَ } واحدة قرأ { بُشرًا } جمعاً لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله: { { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 2] ثم قال: { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [العصر: 3] فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله: { نَشْراً } ففيه قراءات: إحداها: قراءة الأكثرين { نُشُراً } بضم النون والشين، وهو جمع نشور مثل رسل ورسول، والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب، فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق، ومنه نشر الثوب، ونشر الخشبة بالمنشار. وقال الفراء: النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر، وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرىء القيس ونشر العطر.

والقراءة الثانية: قرأ ابن عامر { نُشْراً } بضم النون وإسكان الشين، فخفف العين كما يقال كتب ورسل.

والقراءة الثالثة: قرأ حمزة { نَشْراً } بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول والرياح كأنها كانت مطوية، فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها، فقوله: { نَشْراً } مصدر هو حال من الرياح والتقدير: أرسل الرياح منشرات، ويجوز أيضاً أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر. قال الأعشى:

يا عجباً للميت الناشر

فإذا حملته على ذلك وهو الوجه. كان المصدر مراداً به الفاعل كما تقول: أتاني ركضاً أي راكضاً، ويجوز أيضاً أن يقال: أن أرسل ونشر متقاربان، فكأنه قيل: وهو الذي ينشر الرياح نشراً.

والقراءة الرابعة: حكى صاحب «الكشاف» عن مسروق { نَشْراً } بمعنى منشورات فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم: ضم نشره.

والقراءة الخامسة: قراءة عاصم { بشرًا } بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيراً على بشر من قوله تعالى: { يُرْسِلَ ٱلرّيَـٰحَ مُبَشّرٰتٍ } أي تبشر بالمطر والرحمة، وروى صاحب «الكشاف» { بشرًا } بضم الشين وتخفيفه و { بشرًا } بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى.

المسألة الثانية: اعلم أن قوله: { وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ } معطوف على قوله: { { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأعراف: 54] ثم نقول: حد الريح أنه هواء متحرك فنقول: كون هذا الهواء متحركاً ليس لذاته ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله. قالت الفلاسفة: ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخيناً قوياً شديداً فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد، فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركاً على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها، فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب، وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح، ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر، وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد. هذا حاصل ما ذكروه، وهو باطل، ويدل على بطلانه وجوه: الأول: أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها، ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع، فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جداً كانت سريعة الانفعال، فإذا تصاعدت، ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جداً، وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك، فبطل ما ذكروه.

الوجه الثاني: هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت، وجب أن تنزل على الاستقامة، لأن الأرض جسم ثقيل، والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك، فإنها تتحرك يمنة ويسرة.

الوجه الثالث: وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة، فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير، ثم عاد ذلك الغبار، ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار.

والوجه الرابع: أنه لو كان الأمر على ما قالوه، لكانت الرياح كلما كانت أشد، وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر، لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر، مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل. ما قالوه، وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح. قال المنجمون: إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها، وذلك أيضاً بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك، وأيضاً قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار. فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى. وثبت بالدليل العقلي صحة قوله: { هوٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ }.

المسألة الثالثة: قوله: { بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } فيه فائدتان: إحداهما: أن قوله: { نَشْراً } أي منشرة متفرقة، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة، وجزء آخر يذهب يسرة، وكذا القول في سائر الأجزاء، فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول: لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار.

والفائدة الثانية: في الآية أن قوله: { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئاً يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ.

فإن قيل: فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول: ليس في الآية ان هذا التقدم حاصل في كل الأحوال، فلم يتوجه السؤال، وأيضاً فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.

ثم قال تعالى: { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً } يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب «الكشاف»: واشتقاق الإقلال من القلة، لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً، وقوله: { سَحَابًا ثِقَالاً } أي بالماء جمع سحابة، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد: إحداها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر. وثانيها: أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول، فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء. وثالثها: أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها. ورابعها: أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها. وخامسها: أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف. وسادسها: أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً. وسابعها: أن هذه الرياح تارة تكون شرقية، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية. وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها. وثامنها: أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: الرياح ثمان: أربع منها عذاب، وهو القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم، وأربعة منها رحمة: الناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" والجنوب من ريح الجنة، وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض، وعن السدي: أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك، ورحمته هو المطر.

إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الرياح في الصفات المذكورة، مع أن طبيعة الهواء واحدة، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.

ثم قال تعالى: { سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ } والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.

فإن قيل: السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول: حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً، وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق؟!

والجواب: أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً، نظراً إلى اللفظ، وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً، نظراً إلى كونه جمعاً، أما «اللام» في قوله: { سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ } ففيه قولان: قال بعضهم هذه «اللام» بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين. وقال آخرون: هذه «اللام» بمعنى من أجل، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه. وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر، خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى:

وبلدة مثل ظهر الترس موحشةٌ للجن بالليل في حافاتها زجلُ

ثم قال تعالى: { فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَاء } اختلفوا في أن الضمير في قوله: { بِهِ } إلى ماذا يعود؟ قال الزجاج وابن الأنباري: جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء، لأن السحاب آلة لإنزال الماء.

ثم قال: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } الكناية عائدة إلى الماء، لأن إخراج الثمرات كان بالماء. قال الزجاج: وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات، لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد، وعلى القول الأول، فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب، وقال جمهور الحكماء: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة. والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة. ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس، ولحمه وماؤه حار رطب، وعجمه بارد يابس، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب، يدل على أنها إنما حدثت بإحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.

ثم قال تعالى: { كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ } وفيه قولان: الأول: أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً، وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء. قال مجاهد: إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.

والقول الثاني: أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً، والمعنى: أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً، لأن من يقدر على إحداث الجسم، وخلق الرطوبة والطعم فيه، فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق.

واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني، فقد أبعد، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة، فبعضها يكون بالمشرق، وبعضها يكون بالمغرب، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد؟

فإن قالوا: إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر؟ وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز.

ثم قال تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } والمعنى: أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها، فقوله: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى.

ثم قال تعالى: { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا }.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:

القول الأول: وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.

والقول الثاني: أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.

المسألة الثانية: هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس، وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان: منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية، والأخلاق الفاضلة، كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة، وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة، فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية، ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } [المائدة: 83] ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال: { { فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74] ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب، ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب، وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول: من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه، ومنهم من يكون بالعكس، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان: أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير، كثير الفضول والشر.

والوجه الثاني: من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى: { بِإِذْنِ رَبّهِ } وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى.

المسألة الثالثة: قرىء { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } أي يخرجه البلد وينبته.

أما قوله تعالى: { وَٱلَّذِى خَبُثَ } قال الفراء: يقال: خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة. وقوله: { إِلاَّ نَكِدًا } النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث: النكد: الشؤم واللؤم وقلة العطاء، ورجل أنكد ونكد قال:

وأعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد

إذا عرفت هذا فنقول: قوله: { وَٱلَّذِى خَبُثَ } صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى ذلك البلد مقامه، إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدر ونبات الذي خبث، وقرىء { نَكِدًا } بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد.

ثم قال تعالى: { كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } قرىء { يُصْرَفْ } أي يصرفها الله، وإنما ختم هذه الآية بقوله: { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد، فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها، فلا جرم قال: { نُصَرِّفُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها، فهو كقوله: { { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2].