التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
٨٨
قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ
٨٩
-الأعراف

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين: إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية وإما أن تعود إلى ملتنا، والإشكال فيه أن يقال: إن قولهم: { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر، فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك، وذلك في غاية الفساد، وقوله: { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } يدل أيضاً على هذا المعنى.

والجواب من وجوه: الأول: أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم. الثاني: أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم، وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام. الثالث: أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه، فتوهموا أنه كان على دين قومه. الرابع: لا يبعد أن يقال: إن شعيباً كان على شريعتهم، ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه. الخامس: المراد من قوله: { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء. تقول العرب: قد عاد إلي من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء. قال الشاعر:

فإن تكن الأيام أحسن مدة إلى فقد عادت لهن ذنوب

أراد فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان، ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين: الأول: قوله: { وَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ } الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال. تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين: الثاني: قوله: { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم، وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال: إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله. وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتكم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة. وقوله: { إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } فيه وجوه: الأول: معنى { إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } علمنا قبحه وفساده، ونصب الأدلة على أنه باطل. الثاني: أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب. والثالث: أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم، أو اعتقدوا أنه كان كذلك. فقوله: { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } أي حسب معتقدكم وزعمكم.

أما قوله: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ }.

فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر، والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح. أما وجه استدلال أصحابنا بهذه، فمن وجهين: الأول: قوله: { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه، لا من الله تعالى، وذلك على خلاف مقتضى قوله: { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } الثاني: أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، ولما كانت تلك الملة كفراً، كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر، فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر، وذلك غير مذهبنا. قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام: { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ } [إبراهيم: 35] وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك" وقال يوسف: { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } [يوسف: 101] أجابت المعتزلة عنه من وجوه: الأول: أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء. والثاني: أن هذا مذكور على طريق التبعيد، كما يقال: لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار، وشاب الغراب: فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته. ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً، فهو على طريق التبعيد، لا على وجه الشرط. الثالث: أن قوله: { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو، فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى، وكون الضمير أفضل من الإظهار، لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى، كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع: أن قوله: { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ } المراد الإخراج عن القرية، فيحمل قوله: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } أي القرية، لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية، أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته. الخامس: أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر، لأن قوله: { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ } معناه: أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها. وقوله: { لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } أي يكون ذلك العود جائزاً، والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم، ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر. فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر، فكان التقدير: إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها، والشريعة التي صارت منسوخة، لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم.

والوجه السادس: للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي، فقال: المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات، كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِي مِلَّتِكُمْ } ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ، لا جرم قال: { إِلاَّ أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ } والمعنى: إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه، فحينئذ نعود إليها فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها، وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة، وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة، ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب. وأما المعتزلة فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين:

الوجه الأول: لما قالوا ظاهر قوله: { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّنَا } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده، كان فعله جائزاً مأذوناً فيه، ولم يكن حراماً. قالوا: وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله، كان حسناً مأذوناً فيه، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى.

والوجه الثاني: لهم أن قالوا: إن قوله: { لَنُخْرِجَنَّكَ...أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.

واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب.

أما قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه: قال القاضي: قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب: { إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّنَا } معناه: إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات، فحينئذ يكلفنا بها، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء،فلذلك أتبعه بهذا القول. وقال أصحابنا: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، هو أن القوم لما قالوا لشعيب: إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا، فقال شعيب: { وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً } فربما كان في علمه حصول قسم ثالث، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي، لأن قوله: { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } لائق بهذا الوجه، لا بما قاله القاضي.

المسألة الثانية: قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء، لأن قوله: { وَسِعَ } فعل ماض، فيتناول كل ماض. وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله.

المسألة الثالثة: قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } يدل على أنه علم الماضي، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون، فهذه أقسام أربعة، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه. أما الماضي: فإنه علم أنه لما كان ماضياً، فإنه كيف كان. وعلم أنه لو لم يكن ماضياً، بل كان حاضراً، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون. وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال، وبحسب المستقبل، وبحسب المعدوم المحض، فيكون المجموع ستة عشر، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله.

المسألة الرابعة: قال الواحدي: قوله: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } منصوب على التمييز.

واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين: الأول: بالتوكل على الله. فقال: { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } فهذا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب. والثاني: الدعاء. فقال: { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } قال ابن عباس والحسن وقتادة، والسدي: احكم واقض. وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري قوله: { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك. قال الزجاج: وجائز أن يكون قوله: { ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، والمراد منه: أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتبيين.

ثم قال: { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَـٰتِحِينَ } والمراد منه الثناء على الله. واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين، فلا شك أن الإيمان كذلك.

إذا ثبت هذا فنقول: لو كان الموجد للإيمان هو العبد، لكان خير الفاتحين هو العبد، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين.