التفاسير

< >
عرض

إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
٤٢
-الأنفال

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: في قوله: { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا } قولان: أحدهما: أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا، كما قال تعالى: { { وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [الأنفال: 26] والثاني: أن يكون قوله: { إِذْ } بدلاً عن يوم الفرقان.

المسألة الثانية: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { بِالْعُدْوَةِ } بكسر العين في الحرفين. والباقون بالضم، وهما لغتان. قال ابن السكيت: عدوة الوادي وعدوته جانبه، والجمع عدى، وعدي. قال الأخفش: الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك. وقال أحمد بن يحيى: الضم في العدوة أكثر اللغتين. وحكى صاحب «الكشاف»: الضم والفتح والكسر. قال: وقرىء بهن و { بالعدية } على قلب الواو ياء، لأن بينها وبين الكسر حاجزاً غير حصين، كما في الفتية. وأما { ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } فتأنيث الأدنى وضده { ٱلْقُصْوَىٰ } وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء، فقد قصا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى.

فإن قيل: كلتاهما فعلى من باب الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟

قلنا: القياس قلب الواو ياء، كالعليا. وأما القصوى، فقد جاء شاذاً، وأكثر استعماله على أصله.

المسألة الثالثة: المراد بالعدوة الدنيا، ما يلي جانب المدينة، وبالقصوى، ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون، وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد { وَٱلرَّكْبُ } العير التي خرجوا لها كانت في موضع { أَسْفَلَ مِنكُمْ } إلى ساحر البحر { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } أنتم وأهل مكة على القتال، لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم { وَلَـٰكِن لّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي أنه يثبتكم الله، وينصركم، ليقضي أمراً كان مفعولاً، واجباً أن يخرج إلى الفعل وقوله: { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } بدل من قوله: { لّيَقْضِيَ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم. وأما الكفار، فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد، وبسبب حصول الآلات والأدوات، لأنهم كانوا قريبين من الماء، ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي، ولأن العير كانوا خلف ظهورهم، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية، وجعل الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله: { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ } إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البينة هذه المعجزة.

المسألة الثانية: اللام في قوله: { لّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } وفي قوله: { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ } لام الغرض، وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح، إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة.

المسألة الثالثة: قوله: { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ } ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح، وذلك يقدح في قول أصحابنا: أنه تعالى أراد الكفر من الكافر، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة.

المسألة الرابعة: قوله: { وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي { مِنْ } بإظهار الياءين وأبو عمرو، وابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام. فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة. وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من «يحيى» فجرى على مشاكلته، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في { وَلاَ يَحْيَىٰ }.

ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم، فأصلح مهمكم.