التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: معنى البراءة انقطاع العصمة. يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هنا يقال برئت من الدين، وفي رفع قوله: { بَرَاءةٌ } قولان: الأول: أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة. قال الفراء: ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل، جميل والله، أي هذا جميل والله، وقوله: { مِّنَ } لابتداء الغاية، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان. الثاني: أن يكون قوله: { بَرَاءةٌ } مبتدأ وقوله: { مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } صفتها وقوله: { إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ } هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار.

فإن قالوا: ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟

قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين.

المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم.

فإن قيل: كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد؟

قلنا: لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله: { { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء } [الأنفال: 58] وقال أيضاً: { { ٱلَّذِينَ..... يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ } [الأنفال: 56] والثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه. فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث: أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله منه بريئان، ولهذا المعنى قال الله تعالى: { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } [التوبة: 4] وقيل: إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة.

المسألة الثالثة: روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، ونزول هذه السورة سنة تسع، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم، فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم. فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم ساروا، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف، واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر علياً بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه، وقيل لما خص أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب، وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة، حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر، والله أعلم.

وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم، ولم يكن ذلك لعلي رضي الله عنه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يبلغ عني إلا رجل مني" فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر، ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم، وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم. فلهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول.

وأما قوله: { فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ففيه أبحاث: الأول: أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب. يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب. قال المفسرون: { فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ } يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر، بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف، يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة.

البحث الثاني: قال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور: الأول: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً. والثاني: لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد، والثالث: أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد، فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود. والرابع: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة.

البحث الثالث: قال ابن الأنباري: قوله: { فَسِيحُواْ } القول فيه مضمر والتقدير: فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله: { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } [الإنسان: 21، 22].

البحث الرابع: اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر، وإنما سميت حرماً لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال، فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرماً، وقيل إنما سميت حرماً لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم. وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" .

وأما قوله: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } فقيل: اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. وقيل تقديره: فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال. والمقصود: أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم. وقيل: اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه، وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال ابن عباس: بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزجاج: هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار، والخزي والنكال الفاضح.