التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ
١٢٩
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أما قوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يريد المشركين والمنافقين. ثم قيل: { تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عنك. وقيل: تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.

ثم قال: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه.

فإن قالوا: العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟

قلنا: وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود و النصارى، ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله: { ٱلْعَظِيمِ } بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه. قال أبو بكر: وهذه القراءة أعجب، لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، وإن جعلناه صفة لله سبحانه، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. وقال الحسن: هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن، وما أنزل بعدهما قرآن. وقال أبي بن كعب: أحدث القرآن عهد بالله - عز وجل - هاتان الآيتان، وهو قول سعيد بن جبير، ومنهم من يقول: آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى: { { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281].

ونقل عن حذيفة أنه قال: أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة، وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه، والله ما تقرؤن ربعها.

اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها، لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا خفاء أن القول به باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

وهذا آخر تفسير هذه السورة، ولله الحمد والشكر.

فرغ المؤلفرحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.