التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٧٥
فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٧٦
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
٧٧
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول: { { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ } [التوبة:61] { { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَـٰتِ } [التوبة:58] { { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى } [التوبة:49] { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم، فلحقه شدة، فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار، لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله، إلى آخر الآية، والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال: يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال عليه السلام: "يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً بها، فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة. وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فأخبر بخبره فقال: " يا ويح ثعلبة " فنزل قوله: { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } فبعث إليه رجلين وقال: "مرا بثعلبة فخذا صدقاته" فعند ذلك قال لهما: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية، فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ } فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا، فأتى الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته، فقال: إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: " قد قلت لك فما أطعتني " فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثم لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان.

فإن قيل: إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة، فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه؟

قلنا: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له ليعتبر غيره به، فلا يمتنع عن أداء الصدقات، ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص؛ وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة، لهذا السبب، ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال: { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه، فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة، والله أعلم.

المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات، ثم إنه تعالى آتاه المال، وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد، وههنا سؤالات:

السؤال الأول: المنافق كافر، والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى؟

والجواب: المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام، فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، كان كافراً. وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر؟ ويقل في أصناف الكفار من ينكره، والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات، ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق، فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين، وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً، ثم لما بخل بالمال، ولم يف بالعهد صار منافقاً، ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً }.

السؤال الثاني: هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان، أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة؟

الجواب: منهم من قال: كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره، ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد. يروى عن المعتمر بن سليمان قال: أصابتنا ريح شديدة في البحر، فنذر قوم منا أنواعاً من النذور، ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به، فلما قدمت البصرة سألت أبي، فقال: يا بني ف به. وقال أصحاب هذا القول إن قوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ } كان شيئاً نووه في أنفسهم، ألا ترى أنه تعالى قال:{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } وقال المحققون: هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان، والدليل عليه قوله عليه السلام: " إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به " أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءَاتَـٰنَا ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إخبار عن تكلمه بهذا القول، وظاهره مشعر بالقول باللسان.

السؤال الثالث: قوله: { لَنَصَّدَّقَنَّ } المراد منه إخراج مال، ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً، وقد يكون غير واجب. والواجب قسمان: قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء، كإخراج الزكاة الواجبة، وإخراج النفقات الواجبة، وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور.

إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة، فقوله: { لَنَصَّدَّقَنَّ } هل يتناول الأقسام الثلاثة، أو ليس الأمر كذلك؟

والجواب: قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة، فغير داخلة تحت هذه الآية،والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله: { بَخِلُواْ بِهِ } والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب، وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم. وأما القسمان الباقيان، فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية لا محالة، وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو، والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة.

بقي أن يقال: هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل، كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر؟ والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه، لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله: { لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } وهذا لا يشعر بالنذر، لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه، فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام، والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول.

قلنا: قوله: { لَنَصَّدَّقَنَّ } لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور، لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا القدر لا يوجب الفور، فكأنهم قالوا: لنصدقن في وقت كما قالوا { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } أي في أوقات لزوم الصلاة، فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء، ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة، فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين، فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه، ولا يقومون بما يقولون والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق، وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي.

السؤال الرابع: ما المراد من الفضل في قوله: { لَئِنْ ءَاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ }.

والجواب: المراد إيتاء المال بأي طريق كان، سواء كان بطريق التجارة، أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما.

السؤال الخامس: كيف اشتقاق { لَنَصَّدَّقَنَّ }.

الجواب: قال الزجاج: الأصل لنتصدقن. ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها. قال الليث: المصدق المعطي والمتصدق السائل. قال الأصمعي والفراء: هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى: { { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِى ٱلْمُتَصَدّقِينَ }

[يوسف:88] السؤال السادس: ما المراد من قوله: { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ }.

الجواب: الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن، وأقول التقييد لا دليل عليه. بل قوله: { لَنَصَّدَّقَنَّ } إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله: { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق.

ثم قال تعالى: { فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة:

الصفة الأولى: البخل وهو عبارة عن منع الحق.

والصفة الثانية: التولي عن العهد.

والصفة الثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.

ثم قال تعالى: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره. والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح، لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق، ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض، لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركاً لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق في القلب، لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثراً في حصول الجهل في القلب. أما أولاً: فلأن ترك الواجب عدم، والجهل وجود العدم لا يكون مؤثراً في الوجود. وأما ثانياً: فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق، مع أنه لا يحصل معه النفاق. وأما ثالثاً: فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو كان محرماً شرعاً، لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً. وأما رابعاً: فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية { بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز، لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه، فوجب إسناده إليه، فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه: أنهم لما ضلوا في الماضي، فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل، والذي يؤكد القول بأن قوله { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } مسند إلى الله جل ذكره أنه قال: { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } والضمير في قوله تعالى: { يَلْقَوْنَهُ } عائد إلى الله تعالى، فكان الأولى أن يكون قوله: { فَأَعْقَبَهُمْ } مسنداً إلى الله تعالى. قال القاضي: المراد من قوله: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ } أي فأعقبهم العقوبة على النفاق، وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم، ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة. قلنا: هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة، فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر، قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية، لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت.

المسألة الثانية: قال الليث: يقال: أعقبت فلاناً ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك. قال الهذلي:

أودى بني وأعقبوني حسرة بعد الرقاد وعبرة لا تقلع

ويقاتل: أكل فلان أكلة أعقبته سقماً، وأعقبه الله خيراً. وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه الله.

المسألة الثالثة: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به، ومذهب الحسن البصريرحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام: " ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان " وعن النبي عليه السلام: " تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا " قال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه، ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال: إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال: أتى الحسن رجل فقال له: إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم: { وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ } فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسنرحمه الله .

المسألة الرابعة: { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً، وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال: إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك، وبقي على تلك الحالة، وما قبل صدقته أحد حتى مات، فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً، فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.

المسألة الخامسة: قال الجبائي: إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ } قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية، بدليل أنه قال في صفة المنافقين: { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. قال: والذي يقويه قوله عليه السلام: " من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا: لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا. والقاضي استحسن هذا الكلام. وأقول: أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة؟! وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية، وفي هذا الخبر لدليل منفصل، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور. ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية، وذلك ممنوع. فنقول: لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء، كما أن الإدراك هو البلوغ. قال تعالى: { { قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] أي لملحقون، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا، ثم نقول: لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية، بل المقصود أنه تعالى { فأعقبهم نفاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي حكمه وقضاءه، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً، أي تجازى عليه، قال تعالى: { بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } والمعنى: أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب.

ثم قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } والسر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما، ونظيره قوله تعالى: { { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] وقوله: { { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا } [يوسف: 80] وقوله: { { فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ... وَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلْبِرّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [المجادلة: 9] وقوله: { { إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة: 12].

إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر؟

ثم قال: { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } والعلام مبالغة في العالم، والغيب ما كان غائباً عن الخلق. والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء. فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات، فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر، فكيف يمكن الاخفاء منه؟ ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام: { { إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } [المائدة: 116] فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال.