التفاسير

< >
عرض

ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٩٧
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
-التوبة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام، لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب، ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال العلماء من أهل اللغة، يقال: رجل عربي. إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. كما تقول مجوسي ويهودي، ثم يحذف ياء النسبة في الجمع، فيقال: المجوس واليهود، ورجل أعرابي، بالألف إذا كان بدوياً، يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي: فرح، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي، غضب له، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب، والذي يدل على الفرق وجوه: الأول: أنه عليه السلام قال: " حب العرب من الإيمان " وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية. والثاني: أنه لا يجوز أن يقال: للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب. قال عليه السلام: " لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً " الثالث: قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة، وهي من تهامة. فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم، لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل: سموا بالعرب، لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة، ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة يونان في أفئدتهم. وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم، وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم.

المسألة الثانية: من الناس من قال: الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق، فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة. قالوا: لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال.

قالوا إذا ثبت هذا فنقول: قوله: { ٱلأَعْرَابُ } المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم.

المسألة الثالثة: أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين:

الحكم الأول

أنهم أشد كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه: الأول: أن أهل البدو يشبهون الوحوش. والثاني: استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم، والثالث: أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً. والرابع: أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير، ولم يسمع خبره. والخامس: قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية.

الحكم الثاني

قوله: { وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } وقوله: { أجدر } أي أولى وأحق، وفي الآية حذف، والتقدير: وأجدر بأن لا يعلموا. وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام. وقيل: مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بمافي قلوب خلقه { حَكِيمٌ } فيما فرض من فرائضه.

ثم قال: { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا } والمغرم مصدر كالغرامة، والمعنى: أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران، وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله وابتغاء ثوابه { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } يعني الموت والقتل، أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول، ويظهر عليكم المشركون. ثم إنه أعاده إليهم فقال: { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء } والدائرة يجوز أن تكون واحدة، ويجوز أن تكون صفة غالبة، وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة، بحيث لا يكون له منها مخلص، وقوله: { ٱلسَّوْء } قرىء بفتح السين وضمه. قال الفراء: فتح السين هو الوجه، لأنه مصدر قولك: ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسماً، كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب، ولا يجوز ضم السين في قوله: { { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء } [مريم: 28] ولا في قوله: { { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْء } [الفتح: 12] وإلا لصار التقدير: ما كان أبوك امرأ عذاب، وظننتم ظن العذاب، ومعلوم أنه لا يجوز، وقال الأخفش وأبو عبيد: من فتح السين، فهو كقولك: رجل سوء، وامرأة سوء. ثم يدخل الألف واللام. فيقول: رجل السوء وأنشد الأخفش:

وكنت كذئب السوء لما رأى دماً بصاحبه يوماً أحال على الدم

ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه، كأنه قيل: عليهم دائرة الهزيمة والمكروه، وبهم يحيق ذلك. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء، لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه.

إذا عرفت هذا فنقول: المعنى يدور عليهم البلاء والحزن، فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم.

ثم قال: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لقولهم: { عَلِيمٌ } بنياتهم.