التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
٧١
-يونس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } أمره عليه السلام أن يذكّرهم أقاصيص المتقدّمين، ويخوّفهم العذاب الأليم على كفرهم. وحذفت الواو من «ٱتل» لأنه أمر؛ أي ٱقرأ عليهم خبر نوح. { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } «إذ» في موضع نصب. { يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } أي عظم وثقل عليكم. { مَّقَامِي } المقام (بفتح الميم): الموضع الذي يقوم فيه. والمُقام (بالضم) الإقامة. ولم يُقرأ به فيما علمت؛ أي إن طال عليكم لُبْثي فيكم. { وَتَذْكِيرِي } إياكم، وتخْويفي لكم. { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } وعزمتم على قتلي وطردي. { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } أي اعتمدت. وهذا هو جواب الشرط، ولم يزل عليه السلام متوكلاً على الله في كل حال، ولكن بيّن أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم؛ أي إن لم تنصروني فإني أتوكّل على من ينصرني.

قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } قراءة العامة «فَأَجْمِعُوا» بقطع الألف «شُرَكَاءَكُمْ» بالنصب. وقرأ عاصم الجَحْدرِيّ «فٱجْمعُوا» بوصل الألف وفتح الميم؛ من جَمع يجمع. «شُرَكَاءَكُمْ» بالنصب. وقرأ الحسن وٱبن أبي إسحاق ويعقوب «فأجمِعوا» بقطع الألف «شركاؤكم» بالرفع. فأما القراءة الأُولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه. وقال الفراء: أجمع الشيء أعدّه. وقال المؤرّج: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وأنشد:

يا ليت شعري والمُنَى لا تنفعهل أَغْدُوَنْ يوماً وأمري مُجْمَعُ

قال النحاس: وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه؛ قال الكسائي والفراء: هو بمعنى وٱدعوا شركاءكم لنصرتكم؛ وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل. وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى؛ كما قال:

يا ليت زوجَك في الوَغَىمتقلّدا سَيْفاً ورُمْحاً

والرمح لا يُتقلّد، إلا أنه محمول كالسيف. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى مع شركائكم على تناصركم؛ كما يقال: التقى الماء والخشبةَ. والقراءة الثانية من الجمع، اعتباراً بقوله تعالى: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } [طۤه: 60]. قال أبو معاذ: ويجوز أن يكون جَمَعَ وأجْمع بمعنًى واحد، «وشركاءكم» على هذه القراءة عطف على «أمركم»، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وإن شئت بمعنى مع. قال أبو جعفر النحاس: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمراً. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة تبعد؛ لأنه لو كان مرفوعاً لوجب أن تكتب بالواو، ولم يُرَ في المصاحف واو في قوله «وشركاءكم»، وأيضاً فإن شركاءهم الأصنام، والأصنام لا تصنع شيئاً ولا فعل لها حتى تُجْمِع. قال المهدويّ: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها.

قوله تعالى: { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } اسم يكن وخبرها. وغُمّة وغَمّ سواء، ومعناه التغطية؛ من قولهم: غُمّ الهلال إذا استتر؛ أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً تتمكنون فيه ممّا شئتم؛ لا كمن يخفَى أمرُه فلا يقدر على ما يريد. قال طرفَة:

لعمرك ما أمري عليّ بغُمّةنهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَد

الزجاج: غمّة ذا غم، والغم والغُمّة كالكَرْب والكُرْبة. وقيل: إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبيّن صاحبه لأمره مصدراً لينفرج عنه ما يغُمّه. وفي الصحاح: والغمة الكربة. قال العجاج:

بل لو شهدت الناس إذ تُكُمُّوابغُمّة لو لم تُفَرَّج غُمُّوا

يقال: أمْرٌ غُمّة، أي مُبْهَم ملتبس؛ قال تعالى:

{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً }. قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق. والغمة أيضاً: قعر النِّحْي وغيره. قال غيره: وأصل هذا كله مشتق من الغمامة.

قوله تعالى: { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } ألف «ٱقضوا» ألف وصل، من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي: وهو مثل. { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ } [الحجر: 66]، أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. ورُوي عن ابن عباس «ثُمَّ ٱقْضُوا إلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ» قال: ٱمضوا إليّ ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة؛ ومنه: قَضَى الميت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه، وهذا من دلائل النبوّات. وحكى الفراء عن بعض القراء «ثم أفضوا إليّ» بالفاء وقطع الألف، أي توجهوا؛ يقال: أفضت الخلافة إلى فلان، وأفضى إليّ الوجع. وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقاً، ومن كيدهم غير خائف؛ علماً منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون. وهو تعزيةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقويةٌ لقلبه.