التفاسير

< >
عرض

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ
٤٥
قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٤٦
قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٤٧
-هود

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } أي دعاه. { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ٱبنه لقوله: «وَأَهْلَكَ» وترك قوله: { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } فلما كان عنده من أهله قال: { رَبِّ إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } يدلّ على ذلك قوله: { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمناً في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: «إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي» إلا وذلك عنده كذلك؛ إذا محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ٱبنه يُسِرّ الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحاً بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ٱبنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقاً؛ ولذلك ٱستحل نوح أن يناديه. وعنه أيضاً: كان ٱبن ٱمرأته؛ دليله قراءة عليّ «وَنَادَى نُوحٌ ٱبْنَهَا». { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.

الثانية: قوله تعالى: { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } (أي ليس من أهلك) الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جُبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدلّ على أن حكم الاتفاق في الدِّين أقوى من (حكم) النسب. { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قرأ ٱبن عباس وعُروة وعِكرمة ويعقوب والكسائيّ «إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ» أي من الكفر والتكذيب؛ وٱختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون «عَمَلٌ» أي ٱبنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال:

تَرْتَعُ ما رَتَعتْ حتَّى إذا ادَّكَرتْفَإنما هي إقبالٌ وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح. قاله قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ٱبنه. وكان لغير رِشْدَة، وقاله أيضاً مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ٱبنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: «إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْليِ» فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ٱبن ٱمرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: «إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي» «وَنَادَى نُوحٌ ٱبْنَهُ» ولا يختلف أهل الكتابين أنه ٱبنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب إنهم يكذِبون. وقرأ: «فَخَانَتَاهُمَا». وقال ٱبن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ٱبنه، وكان ولد على فراشه، وكانت ٱمرأته خانته فيه؛ ولهذا قال: { { فَخَانَتَاهُمَا } [التحريم:10] وقال ٱبن عباس: ما بغت ٱمرأة نبيّ قطّ، وأنه كان ٱبنه لصُلْبه. وكذلك قال الضّحاك وعِكرمة وسعيد ابن جُبير وميمون بن مِهران وغيرهم، وأنه كان ٱبنه لصُلْبه. وقيل لسعيد بن جُبير يقول نوح: «إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي» أكان من أهله؟ أكان ٱبنه؟ فسبّح اللَّهَ طويلاً ثم قال: لا إله إلا الله يحدث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه ٱبنه، وتقول إنه ليس ٱبنه نعم كان ٱبنه؛ ولكن كان مخالفاً في النية والعمل والدِّين، ولهذا قال الله تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ }؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ليس مما ينفي عنه أنه ٱبنه. وقوله: { فَخَانَتَاهُمَا } يعني في الدِّين لا في الفِراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التّنور؛ فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التّنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدلّ على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملاً كما يسمى كَسْباً، كما في الخبر: "أولادكم من كَسْبكم" . ذكره القشيريّ.

الثالثة: في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ٱبن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطّاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضاً دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعاً، ومن أهل البيت؛ فمن وصّى لأهله دخل في ذلك ٱبنه، ومن تضمنه منزلُه، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [الصافات:75-76] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.

الرابعة: ودلّت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذاً بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عُيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ٱبن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب «التمهيد». وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الولدُ للفراش وللعاهِر الحَجَر" يريد الخيبة. وقيل: الرّجم بالحجارة. وقرأ عُروة بن الزّبير. «ونَادَى نُوحٌ ٱبْنَهَا» يريد ٱبن ٱمرأته، وهي تفسير القراءة المتقدّمة عنه، وعن عليّ رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.

الخامسة: قوله تعالى: { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [هود: 46] أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [النور: 17] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ٱبن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ { قَالَ } نوح { رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } ما فرط من السؤال.{ وَتَرْحَمْنِيۤ } أي بالتوبة. { أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي أعمالاً. فقال: { يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [هود: 48].