التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠٩
حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١١٠
-يوسف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } هذا ردّ على القائلين: { { لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [الأنعام: 8] أي أرسلنا رجالاً ليس فيهم ٱمرأة ولا جِنِّيٌّ ولا مَلَك؛ وهذا يردّ ما يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في النِّساء أربع نبيَّات حَوّاء وآسية وأمّ موسى ومريم" . وقد تقدّم في «آل عمران» شيء من هذا. «مِنْ أَهْلِ الْقُرَى» يريد المدائن؛ ولم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية قطّ، ولا من النِّساء، ولا من الجنّ. وقال قتادة: «مِنْ أَهْلِ الْقُرَى» أي من أهل الأمصار؛ لأنهم أعلم وأحلم. وقال العلماء: مِن شرط الرسول أن يكون رجلاً آدميّا مدنِياً؛ وإنما قالوا آدميّا تحرّزاً؛ من قوله: { يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [الجن: 6] والله أعلم.

قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } إلى مصارع الأمم المكذِّبة لأنبيائهم فيعتبروا. { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } ٱبتداء وخبره. وزعم الفرّاء أن الدار هي الآخرة؛ وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى؛ قال الشاعر:

ولو أَقْوَتْ عليكَ دِيارُ عَبْسٍعَرَفْتَ الذُّلَّ عِرْفَانَ اليَقينِ

أي عِرْفَاناً يقيناً؛ وٱحتجّ الكسائيّ بقولهم: صلاة الأولى؛ واحتجّ الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال؛ لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرّف به؛ والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى؛ وإنما سمّيت الأولى لأنها أوّل ما صُلّي حين فُرضت الصّلاة، وأوّل ما أظهر؛ فلذلك قيل لها أيضاً الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين؛ والمراد بهذه الدار الجنة؛ أي هي خير للمتقين. وقرىء: «وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ». وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.

قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ } تقدّم القراءة فيه ومعناه. { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزِلّ الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. «حَتَّى إِذَا ٱسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» أي يئسوا من إيمان قومهم. «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا» بالتشديد؛ أي أيقنوا أن قومهم كَذَّبوهم. وقيل المعنى: حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كَذَّبوهم، لا أَنَّ الْقَوْمَ كَذَّبوا، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسِبوا أنهم يُكَذِّبونهم؛ أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شكّ؛ فيكون «وَظَنُّوا» على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وٱبن مسعود وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ وأبو جعفر بن القَعْقَاع والحسن وقَتَادة وأبو رَجَاء العُطَارِديّ وعاصم وحمزة والكسائيّ ويحيـى بن وَثَّاب والأعمش وخَلَف «كُذِبُوا» بالتخفيف؛ أي ظنّ القوم أن الرسل كَذَبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يَصدقُوا. وقيل: المعنى ظنّ الأمم أن الرسل قد كَذَبوا فيما وعدوا به من نصرهم. وفي رواية عن ابن عباس؛ ظنّ الرسلُ أن الله أخلف ما وعدهم. وقيل: لم تصح هذه الرواية؛ لأنه لا يَظنّ بالرسل هذا الظنّ، ومن ظنّ هذا الظنّ لا يستحقّ النّصر؛ فكيف قال: { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا }؟ٰ قال القُشَيريّ أبو نصر: ولا يبعد إن صحّت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم؛ وفي الخبر: "إن الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم ينطق به لسانٌ أو تَعمل به" . ويجوز أن يقال: قربوا من ذلك الظنّ؛ كقولك: بلغت المنزل، أي قربت منه. وذكر الثعلبيّ والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشراً فضَعُفوا من طول البلاء، ونسوا وظنُّوا أَنَّهُمْ أخلِفوا؛ ثم تلا: { { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214]. وقال الترمذيّ الحكيم: وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعدما وعد الله النصر، لا من تهمة لوعد الله، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حَدَثاً يَنْقُض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم؛ فكانت إذا طالت (عليهم) المدّة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه. وقال المهدويّ عن ابن عباس: ظنّت الرُّسل أنهم قد أُخلِفُوا على ما يلحق البشر؛ واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام: { { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260] الآية. والقراءة الأولى أولى. وقرأ مجاهد وحميد ـ «قَدْ كَذَبوا» بفتح الكاف والذال مُخَفّفاً، على معنى: وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبوا، لما رأوا من تفضّل الله عزّ وجلّ في تأخير العذاب. ويجوز أن يكون المعنى: و(لما) أيقن الرسل أن قومهم قد كَذَبوا على الله بكفرهم جاء الرسلَ نصرُنا. وفي البخاريّ عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عزّ وجلّ: { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ } قال قلت: أكُذِبُوا أم كُذِّبوا؟ قالت عائشة: كُذِّبوا. قلت: فقد ٱستيقنوا أن قومهم كذّبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أَجَل لعمري! لقد ٱستيقنوا بذلك؛ فقلت لها: «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظنّ ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل (الذين آمنوا بربهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء، وٱستأخر عنهم النصر حتى إذا ٱستيأس الرسل) ممن كذّبهم من قومهم، وظنّت الرسل أن أتباعهم (قد) كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك. وقي قوله تعالى: { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } قولان: أحدهما: جاء الرسلَ نصُر الله؛ قاله مجاهد. الثاني: جاء قومهم عذاب الله؛ قاله ابن عباس. { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } قيل: الأنبياء ومن آمن معهم. وروي عن عاصم «فَنجِّيَ مَنْ نَشَاءُ» بنون واحدة مفتوحة الياء، و«مَنْ» في موضع رفع، ٱسم ما لم يسم فاعله؛ وٱختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة. وقرأ ٱبن مُحَيْصِن «فَنَجَا» فعل ماض، و«مَنْ» في موضع رفع لأنه الفاعل، وعلى قراءة الباقين نصباً على المفعول. { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } أي عذابنا. { عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي الكافرين المشركين.