التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض؛ (أي) أقدرناه على ما يريد. وقال الكِيَا الطَّبَري قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } دليل على إجازة الحيلة في التوصّل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [صۤ: 44] وحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ في عامل خَيْبَر، والذي أدّاه من التَّمْر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله.

قلت: وهذا مردود على ما يأتي. يقال: مَكّناه ومكّنا له، قال الله تعالى: { { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [الأنعام: 6]. قال الطَّبريّ: استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريّان يوسف على عمل إطفير وعَزَله؛ قال مجاهد: وأسلم على يديه. قال ٱبن عباس: ملّكه بعد سنة ونصف. وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لَمُلِّك في وقته" . ثم مات إطفير فزوّجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين: إفراثيم ومنشا، ٱبني يوسف، ومن زعم أنها زَلِيخَاء قال: لم يتزوّجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فضمّها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوّجها؛ ذكره الماورديّ؛ وهو خلاف ما تقدّم عن وهب، وذكره الثعلبيّ؛ فالله أعلم. ولما فوّض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطّف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبّه الرجال والنساء، قال وهب والسُّديّ وابن عباس وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغَلّة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأَهْرَاءَ، فجمعت فيها في تلك السنة غَلّة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلّة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال: يا أهل مصر جوعوا؛ فإن الله سلّط عليكم الجوع سبع سنين. وقال بعض أهل الحكمة: للجوع والقحط علامتان: إحداهما: أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية. والثانية: أن يفقد الطعام فلا يوجد رأساً ويعزّ إلى الغاية، فٱجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادي الجوع الجوع قال: فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها؛ معاشر الناس! لا يزرع أحد زرعاً فيضيع البذر ولا يطلع شيء. وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف؛ قال ٱبن عباس: لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف! الجوع الجوع فقال يوسف: هذا أوان القحط؛ فلما دخلت أوّل سنة من سنيّ القحط هلك فيها كل شيء أعدّوه في السنين المخصِبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف؛ فباعهم أوّل سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه؛ وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء؛ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى ٱحتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى ٱحتوى على الكل؛ وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضيّاع، حتى ملكها كلها؛ وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعاً وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق (في السنة السابعة) بمصر حر ولا عبد إلا صار عبداً له؛ فقال الناس: والله ما رأينا ملكاً أجلّ ولا أعظم من هذا؛ فقال يوسف لملك مصر: كيف رأيت صنع ربي فيما خَوّلني! والآن كل هذا لك، فما ترى فيه؟ فقال: فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخَوَل من خَوَلك؛ فقال يوسف عليه السلام: إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أُجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستنّ بسنّتي. ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع؛ وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق الملك طعم الجوع، فلا ينسى الجائعين؛ فمن ثَمَّ جعل الملوك غذاءهم نصف النهار.

قوله تعالى: { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } أي بإحساننا؛ والرحمة النعمة والإحسان. { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي ثوابهم. وقال ٱبن عباس ووهب: يعني الصابرين؛ لصبره في الجبّ، وفي الرقّ، وفي السِّجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة. وقال الماورديّ: وٱختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين: أحدهما: أنه ثواب من الله تعالى على ما ٱبتلاه. الثاني: أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلاً منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة.

قوله تعالى: { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع؛ وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متّق؛ وأنشدوا:

أَمَا في رسول الله يوسف أُسْوَةٌلمثلك محبوساً على الظُّلَم والإِفْكِ
أقامَ جَميلَ الصّبر في الحبس بُرهةفآل به الصّبرُ الجميلُ إلى المُلْك

وكتب بعضهم إلى صديق له:

وراء مَضيقِ الخوف مُتَّسعُ الأَمْنِوأوّل مفروحٍ به آخرُ الحزنِ
فلا تَيْأَسَنْ فالله مَلَّكَ يوسفَاخزائنَه بعد الخلاصِ من السِّجنِ

وأنشد بعضهم:

إذا الحادثاتُ بَلَغْنَ النُّهَىوَكادت تَذُوبُ لَهُنَّ المُهَجْ
وحَلَّ البلاءُ وقَلَّ العَزَاءفعند التَّنَاهِي يكونُ الفَرَجْ

والشعر في هذا المعنى كثير.