التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
-يوسف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } أي الممتنع. { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر؛ وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا: «مَسَّنَا» أي أصابنا «وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» أي الجوع والحاجة؛ وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضُّر، أي الجوع؛ بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضّر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع؛ كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه؛ ولا يكون ذلك قدحاً في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكِّي على سبيل التّسخط؛ والصبر والتّجلد في النّوائب أحسن، والتّعفف عن المسألة أفضل؛ وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى؛ وذلك قول يعقوب: «إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنيِ إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده؛ فأما الشكوى على غير مُشْكٍ فهو السّفه، إلا أن يكون على وجه البثّ والتّسلّي؛ كما قال ٱبن دُرَيْد:

لاَ تَحْسَبَنْ يا دهرُ أنّي ضارِعٌلِنَكْبةٍ تَعْرِقُنيِ عَرْقَ الْمُدَى
مَارَسْت مَنْ لَوْ هوتِ الأفلاكُ مِنْجَوَانِبِ الجوِّ عليه ما شَكَا
لكنّها نَفْثَةُ مَصْدورٍ إذاجَاشَ لُغَامٌ مِن نَوَاحِيَها غَمَا

قوله تعالى: { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ } البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء؛ تقول: أبضعت الشيء وٱستبضعته أي جعلته بضاعة؛ وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هَجَر.

قوله تعالى: { مُّزْجَاةٍ } صفة لبضاعة؛ والإزجاء السَّوْق بدفع؛ ومنه قوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } [النور: 43] والمعنى أنها بضاعة تدفع؛ ولا يقبلها كل أحد. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. ٱختلف في تعيينها هنا؛ فقيل: كانت قدِيداً وحيساً؛ ذكره الواقديّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: خَلَقُ الغَرَائر والحبِال؛ روي عن ابن عباس. وقيل: متاع الأعراب صوف وسمن؛ قاله عبد الله بن الحارث. وقيل: الحبة الخضراء والصَّنَوبر وهو البُطْم، حبّ شجرٍ بالشام، يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون، قاله أبو صالح؛ فباعوها بدراهم لا تَنفُق في الطعام، وتَنْفق فيما بين الناس؛ فقالوا: خذها منا بحساب جيادٍ تَنفُق في الطعام. وقيل: دراهم رديئة؛ قاله ابن عباس أيضاً. وقيل: ليس عليها صورة يوسف، وكانت دراهم مصر عليها صورة يوسف. وقال الضحاك: النعال والأدم؛ وعنه: كانت سوِيقا منخلاً. والله أعلم.

قوله تعالى: { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ }.

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا؛ هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن جريج: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم. { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة. قاله سعيد بن جُبير والسدي والحسن: لأن الصدقة تحرم على الأنبياء. وقيل المعنى: «تَصَدَّقْ عَلَيْنَا» بالزيادة على حقّنا؛ قاله سفيان بن عُيَيْنة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جُريج: المعنى «تَصَدَّقْ عَلَيْنَا» بردّ أخينا إلينا. وقال ابن شجرة: «تَصَدَّقْ عَلَيْنَا» تَجوَّز عنا؛ وٱستشهد بقول الشاعر:

تَصدّقْ علينا يا ٱبن عَفَّان وٱحْتَسِبْوأَمِّرْ علينا الأشعريّ لَيَالِيَا

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } يعني في الآخرة؛ يقال: هذا من مَعَاريض الكلام؛ لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، فلذلك لم يقولوا: إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظاً يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل؛ قاله النقاش وفي الحديث: "إن في المَعَاريض لمندوحةً عن الكذب" .

الثانية: ٱستدلّ مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع؛ قال ٱبن القاسم وابن نافع قال مالك: قالوا ليوسف «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزَّان والعدّاد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عِدّة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميّز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه مُعيَّناً ـ صُبْرة أو مالا حقّ توفية فيه ـ فخلّى (ما) بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو على المبتاع؛ وليس كذلك ما فيه حق توفية من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية.

الثالثة: وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضاً؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول: إنها طَيِّبة، فأنت الذي تدّعي الرداءة فٱنظر لنفسك؛ وأيضاً فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي (يجب) عليه القصاص؛ لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أن فرضاً عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه؛ فأجر القطاع على المقتص. وقال الشافعي في المشهور عنه: إنها على المقتص منه كالبائع.

الرابعة: يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدّق عليّ؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا ربّ غيره؛ وسمع الحسن رجلاً يقول: اللهم تصدّق عليّ؛ فقال الحسن: يا هذا! إن الله لا يتصدّق إنما يتصدّق من يبتغي الثواب؛ أما سمعت قول الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } قل: اللهم أعطني وتفضّلّ عليّ.