التفاسير

< >
عرض

وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
١١٥
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } «المشرق» موضع الشروق. «والمغرب» موضع الغروب؛ أي هُمَا له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع؛ كما تقدّم. وخصَّهما بالذكر والإضافة إليه تشريفاً؛ نحو بيت الله، وناقة الله، ولأن سبب الآية ٱقتضى ذلك؛ على ما يأتي.

الثانية: قوله تعالى: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } شَرْطٌ، ولذلك حذفت النون، و «أين» العاملة، و «ما» زائدة، والجواب { فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. وقرأ الحسن «تَوَلَّوْا» بفتح التاء واللام، والأصل تتولّوا. و «ثَمَّ» في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد؛ إلا أنها مبنية على الفتح غير مُعْربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبُعْد، فإن أردت القُرب قلت هنا.

الثالثة: ٱختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } على خمسة أقوال: فقال عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلّى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة؛ أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلة مظلمة فلم نَدْر أين القِبلة، فصلّى كل رجل منّا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يُضعَّف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا؛ قالوا: إذا صلّى في الغيم لغير القِبلة ثم ٱستبان له بعد ذلك أنه صلّى لغير القبلة فإن صلاته جائزة؛ وبه يقول سفيان وٱبن المبارك وأحمد وإسحٰق.

قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكاً قال: تُستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدّى فرضه على ما أُمِر، والكمال يُستدرك في الوقت؛ ٱستدلالاً بالسنة فيمن صلّى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم؛ ولا يعيد في الوقت ٱستحباباً إلا من ٱستدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدًّا مجتهداً، وأمّا من تيامن أو تياسر قليلاً مجتهداً فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المُغِيرة والشافعي: لا يحزيه؛ لأن القِبلة شَرْط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح؛ لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المُسايفة، وتبيحها أيضاً الرّخصة حالة السفر. وقال ٱبن عمر: نزلت في المسافر يتنّفل حيثما توجّهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو مُقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لأحد أن يَدَع القبلة عامداً بوجهٍ من الوجوه إلا في شدّة الخوف؛ على ما يأتي.

وٱختلف قول مالك في المريض يصلّي على مَحْمَله؛ فمرَّةً قال: لا يصلّي على ظهر البعير فريضة وإن ٱشتدّ مرضه. قال سُحْنُون: فإن فعل أعاد؛ حكاه الباجي. ومَرّةً قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماءً فلْيُصَلِّ على البعير بعد أن يوقَف له ويستقبل القبلة. وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلّي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة؛ على ما يأتي بيانه.

وٱختلف الفقهاء في المسافر سفراً لا تقصر في مثله الصلاة؛ فقال مالك وأصحابه والثَّوْرِي: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة؛ قالوا: لأن الأسفار التي حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوّع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حَيّ واللّيث بن سعد وداود بن عليّ: يجوز التطوّع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا؛ لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفرٍ من سفر، فكلّ سفرٍ جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلّي في المصر على الدابة بالإيماء؛ لحديث يحيى ابن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلّى على حمار في أزقّة المدينة يومىء إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضراً كان أو مسافراً أن ينتفل على دابته وراحلته وعلى رجليه (بالإيماء). وحكى عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحَضَر والسَّفر. وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر؛ فقال: أمّا في السفر فقد سمعتُ، وما سمعتُ في الحضر. قال ٱبن القاسم: من تنفّل في محمله تنفّل جالساً، قيامُه تربّع، يركع واضعاً يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه. وقال قتادة: نزلت في النَّجاشي، وذلك أنه: لما مات دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلّي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قِبْلتنا، وكان النَّجاشي ملك الحَبَشة ـ وٱسمه أَصْحَمَة وهو بالعربية عطية ـ يصلّي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صُرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } [آل عمران:199] فكان هذا عُذْراً للنجاشي؛ وكانت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد ٱستدّل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ٱبن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب؛ وقد كنت ببغداد في مجلس الإمام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات؛ فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم؛ فيقوم فيصلّي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدّة، وبينه وبين بلده ستة أشهر.

والأصل عندهم في ذلك صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه:

أحدها: أن الأرض دُحِيتْ له جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي، كما دُحيت له شمالاً وجنوباً حتى رأى المسجد الأقصى. وقال المخالف: وأيّ فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.

الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك وَلِيّ من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة! مَلِك على دين لا يكون له أتباع، والتأويل بالمحال محال.

الثالث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه وٱستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيًّا وميتاً. قال المخالف: بركة الدعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت بٱتفاق. قال ٱبن العربيّ: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومَن آمن معه ليس عندهم من سُنة الصلاة على الميت أَثَر، فعُلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.

قلت: والتأويل الأول أحسن؛ لأنه إذا رآه فما صلّى على غائب وإنما صلّى على مَرْئيّ حاضر، والغائب ما لا يُرَى. والله تعالى أعلم.

القول الرابع: قال ٱبن زيد: كانت اليهود قد ٱستحسنت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما ٱهتدى إلا بنا؛ فلما حُوّل إلى الكعبة قالت اليهود: ما وَلاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؛ فنزلت: { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } فوَجْه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبّد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى بيت الْمَقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه، ولا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون.

القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله: { { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144] ذكره ٱبن عباس؛ فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلّي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 144] أي تلقاءه؛ حكاه أبو عيسى الترمذي.

وقول سادس: رُويَ عن مجاهد والضحاك أنها مُحْكَمة، المعنى: أينما كنتم من شَرْق وَغَرْب فَثَمَّ وجهُ الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضاً وٱبن جُبير لما نزلت: { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا: إلى أين؟ فنزلت: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. وعن ٱبن عمر والنَّخَعِيّ: أينما تولُّوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فَثَمّ وجه الله. وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } [البقرة: 114] الآية؛ فالمعنى أن بلاد الله أيها المؤمنون تَسَعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرّب مساجد الله أن تولُّوا وجوهكم نحو قِبلة الله أينما كنتم من أرضه. وقيل: نزلت حين صُدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيت عامَ الحُدَيْبِيَة فٱغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال.

ومن جعلها منسوخة فلا ٱعتراض عليه من جهة كونها خبراً؛ لأنها محتملة لمعنى الأمر. يحتمل أن يكون معنى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }: وَلُّوا وجوهكم نحو وجه الله؛ وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جُبيررحمه الله لما أمر الحجاجُ بذبحه إلى الأرض.

الرابعة: اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسُّنة؛ فقال الحُذّاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلّها قدراً. وقال ٱبن فُورك: قد تُذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسُّعاً؛ كما يقول القائل: رأيت عِلم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه؛ إنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم؛ كذلك إذا ذُكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى: { { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } [الإنسان: 9] لأن المراد به: لله الذي له الوجه؛ وكذلك قوله: { { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [الليل: 20] أي الذي له الوجه. قال ٱبن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجلّ؛ كما قال: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن: 27]. وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدةٌ على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ٱبن عطية: وضعّف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف؛ وإنما المراد وجوده. وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وُجِّهنا إليها أي القبلة. وقيل: الوجه القصد؛ كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لستُ مُحْصِيَهرَبِّ العباد إليه الوَجْهُ والعَمَلُ

وقيل: المعنى فَثمّ رضا الله وثوابه كما قال: { { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } [الإنسان: 9] أي لرضائه وطلب ثوابه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" . وقوله: "يُجاء يوم القيامة بصحف مُختمة فتُنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا وٱقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزّتك يا ربّنا ما رأينا إلا خيراً وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ٱبتغى به وجهي" أي خالصاً لي؛ خرّجه الدارقطنّي. وقيل: المراد فَثمّ الله؛ والوجه صلة؛ وهو كقوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ». قاله الكَلْبي والقُتَبِيّ، ونحوه قول المعتزلة.

الخامسة: قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي يوسّع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: «واسع» بمعنى أنه يَسَع علمه كل شيء؛ كما قال: { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [طه: 98]. وقال الفَرّاء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء؛ دليله قوله تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]. وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب. وقيل: متفضّل على العباد وغنِيٌّ عن أعمالهم؛ يقال: فلان يسع ما يُسئل، أي لا يبخل؛ قال الله تعالى: { { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } [الطلاق: 7] أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب «الأسنى» والحمد لله.