التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع عشرة مسألة:

الأولى: قال عطاء: لما نزلت { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إلٰه واحد! فنزلت { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }. ورواه سفيان عن أبيه عن أبي الضُّحى قال: لما نزلت { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } قالوا هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فكأنهم طلبوا آية فبيّن لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بدّ له من بان وصانع. وَجَمَعَ السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى. وَوَحّدَ الأرض لأنها كلها تراب؛ والله تعالى أعلم.

فآية السموات: ٱرتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها؛ ودلّ ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبيّ فتُحدِّي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزاً. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نَيّرة وممحّوة آية ثانية.

وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.

الثانية: قوله تعالى: { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة؛ مثل تَمَرة وتَمْر ونخلة ونخل. ويجمع أيضاً ليالي وليال بمعنىً، وهو مما شذّ عن قياس الجموع؛ كشَبه ومشَابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر؛ وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد ٱستعملوا ذلك في الشعر قال:

في كلِّ يوم وكل ليلاة

وقال آخر:

في كلِّ يومٍ ما وكُلِّ لَيْلاهحتى يقول كلُّ راءٍ إذ رآه
يَا وَيْحَهُ مِن جَمَلٍ ما أشقاه

قال ٱبن فارس في المُجْمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا؛ ولا أعرفه. والنهار يجمع نُهُر وأنْهِرَة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نَهَر جمع نُهُر وهو جمع (الجمع) للنهار، وقيل النهار ٱسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والأوّل أكثر؛ قال الشاعر:

لولا الثَّرِيدانِ هَلكْنا بالضُّمُرْثريدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بالنُّهُرْ

قال ٱبن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر. والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورَجُل نَهِرٌ: صاحب نهار. ويقال: إن النّهار فَرْخ الحُبَارى. قال النَّضر بن شُمَيْل: أوّل النهار طلوع الشمس، ولا يُعَدَّ ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوّله عند العرب طلوع الشمس؛ وٱستشهد بقول أُمَيّة بن أبي الصَّلْت:

والشمس تطلع كلَّ آخرِ ليلةٍحمراء يُصبح لوْنُهَا يتورّد

وأنشد قول عَدِيّ بن زيد:

وجاعلُ الشمسِ مِصْراً لا خفاءَ بهبين النهار وبين الليل قد فَصَلاَ

وأنشد الكسائي:

إذا طلعت شمس النهار فإنهاأمارة تسليمي عليك فسلِّمِي

قال الزجاج في كتاب الأنواء: أوّل النهار ذرور الشمس. وقسّم ٱبن الأنباري الزمن ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً؛ وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسماً جعله نهاراً محضاً؛ وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل؛ وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادىء ضوء النهار.

قلت: والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ كما رواه ٱبن فارس في المُجْمَل؛ يدلّ عليه ما ثبت في صحيح مسلم "عن عَدِيّ بن حاتم قال: لما نزلت { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } قال له عَدِيّ: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عِقالين: عقالاً أبيض وعقالاً أسودَ، أعرف بهما الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وِسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار" . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ وهو مقتضى الفقه في الأيمان، وبه ترتبط الأحكام. فمن حلف ألاّ يُكلّم فلانا نهاراً فكلّمه قبل طلوع الشمس حَنِث؛ وعلى الأوّل لا يحنَث. وقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الفَيْصل في ذلك والحكَم. وأمّا على ظاهر اللغة وأخذه من السُّنّة فهو من وقت الإسفار إذا ٱتسع وقت النهار؛ كما قال:

ملكتُ بها كفِّي فأنهرتُ فتقهايرى قائمٌ من دونها ما وراءها

وقد جاء عن حذيفة ما يدلّ على هذا القول؛ خرّجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى.

الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكّر ويؤنّث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بَنَى الجمع بناء آخر؛ يدلّ على ذلك توسّط التثنية في قولهم: فُلْكان. والفلك المفرد مذكّر؛ قال تعالى: { فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [يس: 41] فجاء به مذكّراً، وقال: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } فأنّث. ويحتمل واحداً وجمعاً؛ وقال: { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22] فجمع؛ فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المَرْكب فيذكّر، وإلى السفينة فيؤنّث. وقيل: واحده فلك؛ مثل أَسد وأُسْدٍ، وخَشَب وخُشْبٍ، وأصله من الدَّوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفَلَّكَت الجاريةُ ٱستدار ثديها؛ ومنه فَلْكَة المِغْزَل. وسُمّيت السفينة فُلْكاً لأنها تدور بالماء أسهل دور.

ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إيّاها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى؛ وقال له جبريل: اصنعها على جُؤجُؤ الطائر؛ فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها؛ قاله ٱبن العربي.

الرابعة: هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً لتجارة كان أو عبادة؛ كالحج والجهاد. ومن السُّنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أمّ حرام؛ أخرجهما الأئمة: مالك وغيره. روى حديث أنس عنه جماعةٌ عن إسحٰق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحٰق عن أنس عن أمّ حرام؛ جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدّث عنه به بُنْدار محمد بن بشار؛ ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء؛ وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسُّنة يرد هذا القول؛ ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نَصٌّ في الغرض وإليها المفزع. وقد تُؤوّل ما روي عن العُمَرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها؛ وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدلّ على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العُدْوَتين، وقسّم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشقّ البحر لها؛ فسهّل الله سبيله بالفُلْك؛ قاله ٱبن العربي. قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسُّنة يردّ قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها؛ وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البرّ ممكناً؛ فلذلك كره مالك ذلك. وأمّا السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل من ٱستطاع إليه سبيلاً من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالاً، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن، ولم يخصّ بحراً من بَرّ.

قلت: فدل الكتاب والسّنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعاً: العبادة والتجارة؛ فهي الحجة وفيها الأُسْوة. إلا أنّ الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم؛ فرُبّ راكبٍ يسهل عليه ذلك ولا يشقّ، وآخر يشق عليه ويضعف به؛ كالمائد المفرط المَيْد، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض؛ فالأوّل ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه. ولا خلاف بين أهل العلم وهي:

الخامسة: إن البحر إذا أَرْتَجَ لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين إرتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ تكون السلامة فيه الأغلب؛ فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون.

السادسة: قوله تعالى: { بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضاً. وقد قال بعض من طعن في الدِّين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: { { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام:38] فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من المِلْح والفُلْفُل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله: { بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ }.

السابعة: قوله تعالى: { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عُدّة للانتفاع في غير وقت نزوله؛ كما قال تعالى: { { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 18]. الثامنة: قوله تعالى: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي فرّق ونَشر؛ ومنه { كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ }. ودابة تجمع الحيوان كله؛ وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود، قال الله تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] فإن الطيرَ يدِبّ على رجليه في بعض حالاته؛ قال الأعشى:

دبِيب قَطا البَطْحاء في كلِّ مَنْهَل

وقال علقمة بن عَبَدة:

صواعِقُها لطيرِهِنّ دَبِيبُ

التاسعة: قوله تعالى: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } تصريفها: إرسالها عقيماً ومُلْقِحة، وصِرّا ونَصْراً وهلاكاً، وحارّة وباردةً، وليّنة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصَباً، ونَكْباءَ، وهي التي تأتي بين مَهَبَّيْ ريحين. وقيل: تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك؛ ويصرف عنهما ما يضرّ بهما، ولا ٱعتبار بكبر القلاع ولا صغرها؛ فإن الريح لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سُمِّيت به لأنها تأتي بالروح غالباً. روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الريح من رَوْح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تَسُبُّوها وٱسألوا الله خيرها وٱستعيذوا بالله من شرها" . وأخرجه أيضاً ٱبن ماجه في سُنَنه حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدّثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزُّهري حدّثنا ثابت الزُّرَقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا الريح فإنها من رَوح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سَلُوا الله من خيرها وتعوّذوا بالله من شَرها" . وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبُّوا الريح فإنها من نَفَس الرحمن" . المعنى: أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح؛ والإضافة من طريق الفعل. والمعنى: أن الله تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ٱبن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نُصِرْتُ بالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُور" . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرّج عن نبيّه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب؛ فقال تعالى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب: 9]. ويقال نفّس الله عن فلان كُربة من كرب الدنيا؛ أي فرّج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "مَن نفّس عن مسلم كُربة من كُرَب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كُرَب يوم القيامة" أي فرّج عنه. وقال الشاعر:

كَأَنّ الصَّبا ريح إذا ما تنّسمتعلى كبْد مهموم تجلّت همومُها

قال ٱبن الأعرابي: النسيم أوّل هبوب الريح. وأصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح؛ لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة «وتصريف الأرواح».

العاشرة: قوله تعالى: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } قرأ حمزة والكسائي «الريح» على الإفراد، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والرُّوم وفاطر والشُّورى والجاثية؛ لا خلاف بينهما في ذلك. ووافقهما ٱبن كثير في الأعراف والنمل والرُّوم وفاطر والشُّورى. وأفرد حمزة { الرِّيح لواقح }. وأفرد ٱبن كَثير { وَهُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ ٱلرِّيحَ } في الفُرقان. وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع؛ ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع. والذي ذكرناه في الرُّوم هو الثاني { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } [الروم: 48]. ولا خلاف بينهم في { { ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [الروم:46]. وكان أبو جعفر يزيد بن القَعْقَاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن؛ سوى { { تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ } } [الحج: 31] و { ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41]. فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وجّد الريح فلأنه ٱسم للجنس يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهبّ منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووحّد مع العذاب فإنه فعل ذلك ٱعتباراً بالأغلب في القرآن؛ نحو: { ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } و { ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب؛ إلا في يونس في قوله: { { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22]. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذَا هَبت الرّيح: "اللَّهُمَّ ٱجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة ليّنة متقطّعة فلذلك هي رياح. فأفرِدت مع الفُلْك في «يونس»؛ لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متّصلة ثم وُصفت بالطّيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب.

الحادية عشرة: قال العلماء الريح تحرّك الهواء؛ وقد يشتدّ ويضعف. فإذا بَدَت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبةً إلى سَمْت القِبلة قيل لتلك الريح: «الصَّبَا». وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح: «الدَّبُور». وإذا بَدَت حركة الهواء عن يمين القِبلة ذاهبةً إلى يسارها قيل لها: «ريح الجنوب». وإذا بَدَت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبةً إلى يمينها قيل لها: «ريح الشَّمال». ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها؛ فالصَّبا حارّةٌ يابسة، والدَّبورُ باردةٌ رطبة، والجنوب حارّةٌ رطبةٌ، والشَّمال باردةٌ يابسة. وٱختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء؛ فجعل الربيع الذي هو أوّل الفصول حارًّا رَطْباً، ورتّب فيه النَّشْء والنُّمُو فتنزل فيه المياه، وتُخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا ٱنقضى الرّبيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة؛ لأن الهواء في الصيف حارّ يابس، فتَنْضَج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا ٱنقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة؛ لأن الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجفّ فتصير إلى حال الادّخار، فتُقطف الثمار وتُحصد الأعناب وتَفرغ من جمعها الأشجار. فإذا ٱنقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الأخرى وهو اليبس؛ لأن الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتَهْمُد الأرض كالجسد المستريح؛ فلا تتحرّك إلاّ أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع، فإذا ٱجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النَّشْء والنُّمُوّ بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد تَهُبّ رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلاّ أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تَهُبّ بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى «النَّكْبَاء».

الثانية عشرة: قوله تعالى: { وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } سُمّي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء. وسحبت ذَيْلي سحْباً. وتَسحّب فلان على فلان: اجترأ. والسَّحْب: شدّة الأكل والشرب. والمسخّر: المذلّل؛ وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق؛ والأوّل أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب؛ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجلٌ بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة ٱسْقِ حديقة فلان فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرّة فإذا شَرْجَة من تلك الشِّراج قد ٱستوعبت ذلك الماء كله فتتّبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بِمسحاته فقال له يا عبد اللَّه ما ٱسمك قال فلان للاسم الذي سَمِع في السحابة فقال له يا عبد اللَّه لم تسألني عن ٱسمي فقال إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول ٱسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع (فيها) قال أمّا إذ قلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدّق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأردّ فيها ثلثه. وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وٱبنِ السبيل" . وفي التنزيل: { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [فاطر: 9]، وقال: { { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57] وهو في التنزيل كثير. وخرّج ٱبن ماجه "عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحاباً مقبلاً من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: اللّهُم إنا نعوذ بك من شرّ ما أُرسل به فإن أمطر قال: اللَّهُمّ سَيْباً نافعاً مرتين أو ثلاثة، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك" . أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الرّيح والغيم عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر؛ فإذا مَطَرت سُرّ به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سُلّط على أمّتي. ويقول إذا رأى المطر: رحمة في رواية فقال: لعلّه يا عائشة كما قال قوم عاد { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا }" . فهذه الأحاديث والآي تدلّ على صحة القول الأوّل وأن تسخيرها ليس ثبوتها؛ والله تعالى أعلم. فإن الثبوت يدلّ على عدم الانتقال؛ فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح؛ لقوله «بين» وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك أعظم في القدرة، كالطير في الهواء؛ قال الله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } [النحل: 79]، وقال: { { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الملك: 19] الثالثة عشرة: قال كعب الأحبار: السحاب غِربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض؛ رواه عنه ٱبن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن عليّ عن معاذ بن عبد اللَّه بن خُبيب الجُهَنيّ قال: رأيت ٱبن عباس مرّ على بغلة وأنا في بني سلمة، فمرّ به تُبَيْع ٱبن ٱمرأة كعب فسلّم على ٱبن عباس فسأله ٱبن عباس: هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئاً؟ قال: نعم؛ قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال: سمعتَ كعباً يقول في الأرض تنبت العام نباتاً، وتنبت عاماً قابلاً غيره؟ قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ٱبن عباس: وقد سمعت ذلك من كعب.

الرابعة عشرة: قوله تعالى: { لآيَاتٍ } أي دلالات تدل على وحدانيّته وقدرته؛ ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } ليدلّ بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لمن قرأ هذه الآية فمّج بها" أي لم يتفكّر فيها ولم يعتبرها.

فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له: هذا محال؛ لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة؛ فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالاً؛ لأن الإحداث لا يتأتّى إلا من حيّ عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها. وأيضاً فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه؛ وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدّى إلى المحال محال. ثم أن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرّد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن؛ فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [يونس: 101]، والخطاب للكفار؛ لقوله تعالى: { { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] وقال: { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } } [الأعراف: 185] يعني بالملكوت الآيات. وقال: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبُّر حتى يستدلّوا بكونها محلاًّ للحوادث والتغييرات على أنها محدَثات، وأن المحدَث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم؛ لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] يعني آدم عليه السلام، «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ» أي جعلنا نسله وذرّيته { نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون: 13] إلى قوله: { تُبْعَثُونَ }. فالإنسان إذا تفكّر بهذا التنبيه بما جُعل له من العقل في نفسه رآها مدبّرة وعلى أحوال شتّى مصرّفة. كان نُطْفَةً ثم عَلَقة ثم مُضْغة ثم لحماً وعظماً؛ فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال؛ لأنه لا يقدر على أن يُحدِث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أَشُدّه عضواً من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة؛ فيدلّه ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شاباً ثم كَهْلاً ثم شيخاً وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوّة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا ٱختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المَشيب ويراجع قوّة الشباب؛ فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه، وأن له صانعاً صنعه وناقلاً نقله من حال إلى حال؛ ولولا ذلك لم تتبدّل أحواله بلا ناقل ولا مدبّر. وقال بعض الحكماء: إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، الذي هو بدن الإنسان؛ ولذلك قال تعالى: { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4] وقال: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21]. فحواسّ الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البِلَى تراباً من جنس الأرض؛ وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنّفَس، ومن جنس النار فيه المِرّة الصفراء. وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمدّ منها الأنهار؛ لأن العروق تستمدّ من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر؛ لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار؛ فكما أن لكل شجر ورقاً أو ثمراً فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض. ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان؛ فهو العالَم الصغير مع العالَم الكبير مخلوق محدَث لصانع واحد؛ لا إلٰه إلا هو.