التفاسير

< >
عرض

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

الجامع لاحكام القرآن

فيه إحدى وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ } قال أهل التاريخ: أوّل من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة، وقد تقدّم قول مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم؛ والله أعلم. والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذّر علمه على أحد يريده؛ ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته. ورمضانُ مأخوذ من رَمضَ الصائمُ يَرْمَضُ إذا حَرّ جوفُه من شدّة العطش. والرَّمضاء (ممدودة): شدّة الحر؛ ومنه الحديث: "صلاة الأوّابين إذا رَمِضت الفِصَال" . خرّجه مسلم. ورَمَضُ الفِصَالِ أن تَحرِق الرَّمْضَاءُ أخفافَها فتُبرك من شدّة حرّها. فرمضانُ ـ فيما ذكروا ـ وافق شدّة الحرّ؛ فهو مأخوذ من الرَّمْضَاء. قال الجوهري: وشهر رمضان يُجمع على رَمَضانات وأرمِضاء؛ يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سَمّوْها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رَمَضِ الحرّ فسُمّيَ بذلك. وقيل: إنما سُمِّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق؛ ومنه رَمِضَت قَدَمُه من الرَّمْضاء أي ٱحترقت. وأرْمَضَتْني الرمضاء أي أحرقتني؛ ومنه قيل: أرْمَضَنِي الأمر. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حرّ الشمس. والرمضاء: الحجارة المُحْمَاة. وقيل: هو من رَمَضْتُ النّصل أَرْمِضُه وأَرْمُضُه رَمْضاً إذا دَقَقْته بين حجرين لَيرِقّ. ومنه نَصْل رميض ومرموض ـ عن ٱبن السِّكِّيت ـ؛ وسُمّي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحُرُم. وحكى الماورديّ أن ٱسمه في الجاهلية «ناتق» وأنشد للمفضّل:

وفي ناتقٍ أجْلَتْ لَدى حَوْمَةِ الوَغَىووَلّتْ على الأدبار فُرسانُ خَثْعَما

و «شَهْرُ» بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبرُ { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }. أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون «شهر» مبتدأ، و { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } صفة، والخبر «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهُرَ». وأعيد ذكر الشهر تعظيماً، كقوله تعالى: { ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ } [الحاقة: 1-2]. وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل؛ قاله أبو عليّ. وروي عن مجاهد وشَهْر بن حَوْشَبْ نصب «شهر»، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و «الذي أنزل فيه القرآن» نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو «خير لكم». الرّماني: يجوز نصبه على البدل من قوله { { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [البقرة: 184] الثانية: وٱختلف هل يقال «رمضان» دون أن يضاف إلى شهر؛ فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال الله تعالى. وفي الخبر: "لا تقولوا رمضان بل ٱنسبوه كما نسبه الله في القرآن فقال شَهْرُ رَمَضَانَ" . وكان يقول: بلغني أنه ٱسم من أسماء الله. وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى. ويحتجّ بما روي: رمضان ٱسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الرحمة وغُلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين" . وفي صحيح البُسْتيّ عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان رمضان فُتحت له أبواب الرحمة وغُلّقت أبواب جهنم وسُلْسِلت الشياطين" . وروي عن ٱبن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدّثه أنه سمع أبا هريرة يقول...، فذكره. قال البُسْتيّ: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، وٱسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ٱبن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جُثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم رمضان شهرٌ مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تُفتح فيه أبواب السماء وتُغلق فيه أبواب الجحيم وتُغَلّ فيه مَرَدة الشياطين لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر مَن حُرِم خيرها فقد حُرم" . وأخرجه أبو حاتم البُسْتيّ أيضاً وقال: فقوله «مَرَدة الشياطين» تقييد لقوله: «صُفّدت الشياطين وسُلْسِلت». وروى النسائي أيضاً عن ٱبن عباس قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: إذا كان رمضان فٱعتمري فإن عُمْرة فيه تَعدِل حجّة" . وروى النسائي أيضاً عن عبد الرحمن بن عَوف قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى فرض صيام رمضان (عليكم) وسَنَنْتُ لكم قيامه فمن صامه وقامه إيماناً وٱحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه" . والآثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان.

قال الشاعر:

جاريةٌ في دِرعها الفَضْفاضِأبيضُ مِن أخْت بني إبَاضِ
جاريةٌ في رمضانَ الماضِيتُقَطِّع الحديثَ بالإيماضِ

وفضلُ رمضان عظيم، وثوابُه جسيم؛ يدلّ على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقاً للذنوب، وما كتبناه من الأحاديث.

الثالثة: فرض الله صيام شهر رمضان أي مدّة هلاله، وبه سُمِّيَ الشهر؛ كما جاء في الحديث: "فإن غُمِّيَ عليكم الشهر" أي الهلال، وسيأتي؛ وقال الشاعر:

أخَوَانِ مِن نَجْدٍ على ثِقَةوالشّهرُ مثلُ قُلامة الظُّفر
حتى تكامل في ٱستدارتهفي أربع زادت على عَشر

وفُرض علينا عند غُمّة الهلال إكمال عدّة شعبان ثلاثين يوماً؛ وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين؛ فقال في كتابه { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44]. وروى الأئمة الاثبات عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدد" في رواية "فإن غُمّيَ عليكم الشهر فعُدُّوا ثلاثين" . وقد ذهب مُطَرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخّير وهو من كبار التابعين وٱبن قتيبة من اللغويين فقالا: يُعَوَّل على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل وٱعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤى؛ لقوله عليه السلام: "فإن أُغمي عليكم فٱقدروا له" أي ٱستدِلّوا عليه بمنازله، وقدّروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى «فٱقدروا له» فأكملوا المقدار؛ يفسره حديث أبي هريرة «فأكملوا العدة». وذكر الدّاوُدِي أنه قيل في معنى قوله «فٱقدروا له»: أي قدّروا المنازل. وهذا لا نعلم أحداً قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يُعتبر في ذلك بقول المنّجمين، والإجماعُ حجة عليهم. وقد روى ٱبن نافع عن مالك في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يُفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويُفطر على الحساب: إنه لا يُقتدى به ولا يُتّبَع. قال ٱبن العربي: وقد زَلّ بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعوّل على الحساب، وهي عَثرة «لا لَعاً لها».

الرابعة: وٱختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين؛ فقال مالك: لا يُقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلالٍ فلا يُقبل فيها أقل من ٱثنين؛ أصله الشهادة على هلال شوّال وذي الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يُقبل الواحد؛ لما رواه أبو داود عن ٱبن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدّارَقُطْنِي وقال: تفرّد به مروان بن محمد عن ٱبن وهب وهو ثقة. روى الدّارقطني «أن رجلاً شهد عند عليّ بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام؛ أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوماً من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامّة هلال شهر رمضان ورآه رجل عَدْل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط. وقال الشافعي بعدُ: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على كل مغيّب».

الخامسة: وٱختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال؛ فروى الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، ولْيُخْف ذلك. وروى ٱبن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم؛ لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أنّ ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوّال وحده فلا يفطر؛ لأن الناس يتّهمون على أن يفطر منهم من ليس مأموناً، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. قال ٱبن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل. وقال عطاء وإسحٰق: لا يصوم ولا يفطر. قال ٱبن المنذر: يصوم ويفطر.

السادسة: وٱختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد؛ فلا يخلو أن يَقْرُب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بَعُدَ فلأهل كل بلد رؤيتهم؛ روي هذا عن عِكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ٱبن عباس، وبه قال إسحٰق، وإليه أشار البخاريّ حيث بوّب: «لأهل كل بلد رؤيتهم». وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأَوْه فعليهم قضاء ما أفطروا؛ هكذا قال الليث بن سعد والشافعيّ. قال ٱبن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المُزَنيّ والكوفي.

قلت: ذكر الكِيَا الطبري في كتاب «أحكام القرآن» له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوماً للرؤية، وأهل بلد تسعةً وعشرين يوماً أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوماً قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك؛ إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } وثبت برؤية أهل بلد أن العدّة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، وذلك يوجب ٱعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كُرَيب أن أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدِمت الشام فقضيت حاجتها وٱستُهِل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدِمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نُكمل ثلاثين أو نراه. فقلت:

أو لا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا: قول ٱبن عباس «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته بدون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناسَ على ذلك، فإن حَمل فلا تجوز مخالفته. وقال الكِيا الطبري: قوله «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» يحتمل أن يكون تأوّل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" . وقال ٱبن العربي: «وٱختلف في تأويل (قول) ٱبن عباس (هذا)؛ فقيل: ردّه لأنه خبر واحد، وقيل: ردّه لأن الأقطار مختلفة في المطالع؛ وهو الصحيح، لأن كُرَيْباً لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزى فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهلّ ليلة الجمعة بأَغْمات وأهّل بأشبِيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم؛ لأن سُهَيلا يُكشف من أَغْمات ولا يُكشف من أشبيلية؛ وهذا يدل على ٱختلاف المطالع».

قلت: وأما مذهب مالكرحمه الله في هذه المسألة فروى ٱبن وهب وٱبن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروى القاضي أبو إسحٰق عن ٱبن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك.

السابعة: قرأ جمهور الناس «شَهْرُ» بالرفع على أنه خبر ٱبتداء مضمر؛ أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان، أو الصوم أو الأيام. وقيل: ٱرتفع على أنه مفعول لم يُسَمّ فاعله بـ «ـكُتِب» أي كُتب عليكم شهر رمضان. و «رمضان» لا ينصرف لأن النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }. وقيل: خبره «فَمَنْ شَهِدَ»، و «الذي أنْزِل» نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال: إن الصيام في قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء. ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كُتِب عليكم شهر رمضان. وقرأ مجاهد وشَهْرُ بْن حَوْشَب «شَهْرَ» بالنصب. قال الكسائي: المعنى كُتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفرّاء: أي كُتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس: «لا يجوز أن ينتصب «شهر رمضان» بتصوموا؛ لأنه يدخل في الصلة ثم يفرّق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام؛ ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء؛ أي ٱلزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضاً لأنه لم يتقدّم ذكر الشهر فيغرَى به».

قلت: قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } يدل على الشهر فجاز الإغراء؛ وهو ٱختيار أبي عبيد. وقال الأخفش: ٱنتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء؛ وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان؛ ويجوز تُقلب حركة الراء على الهاء فتُضم الهاء ثم تُدغم، وهو قول الكوفيين.

الثامنة: قوله تعالى: { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }نصّ في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبيّن قوله عز وجل: { حمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 1-3] يعني ليلة القدر، ولقوله: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1]. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر ـ على ما بيناه ـ جملةً واحدة، فوُضع في بيت العِزّة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نَجْماً نَجْماً في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ٱبن عباس: أُنزل القرآن من اللّوح المحفوظ جملةً واحدة إلى الكَتَبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوماً ـ يعني الآية والآيتين ـ في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } قال أنزل من اللّوح المحفوظ كلّ عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السَّفَرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهراً، ونزل به جبريل في عشرين سنة.

قلت: وقول مُقاتل هذا خلاف ما نُقل من الإجماع «أن القرآن أنزل جملةً واحدةً» والله أعلم. وروى وَاثِلة بن الأَسْقع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من شهر رمضان والتوراةُ لِستّ مضيْن منه والإنجيلُ لثلاث عشرة والقرآنُ لأربع وعشرين" .

قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقوله الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا.

التاسعة: قوله تعالى: { ٱلْقُرْآنُ } «القرآن»: اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يُسمَّى شراباً، والمكتوب يُسمَّى كتاباً؛ وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً بمعنىً. قال الشاعر:

ضحّوا بأسْمَط عُنوانُ السّجود بِهِيُقطِّع اللّيلَ تسبيحاً وقرآناً

أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أَوْثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً، أي قراءة. وفي التنزيل: { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78] أي قراءة الفجر. ويُسمَّى المقروء قرآناً على عادة العرب في تسميتها المفعول بٱسم المصدر؛ كتسميتهم للمعلوم علماً وللمضروب ضرباً وللمشروب شرباً، كما ذكرنا؛ ثم ٱشتهر الاستعمال في هذا وٱقترن به العُرف الشرعي، فصار القرآن ٱسماً لكلام الله، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد يُسمَّى المصحف الذي يُكتب فيه كلام الله قرآناً تَوَسُّعاً؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ" أراد به المصحف. وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته. وقيل: هو ٱسمُ عَلم لكتاب الله، غير مشتقّ كالتوراة والإنجيل؛ وهذا يُحكى عن الشافعيّ. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي.

العاشرة: قوله تعالى: { هُدًى لِّلنَّاسِ } «هُدًى» في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هادياً لهم. { وَبَيِّنَاتٍ } عطف عليه. و { ٱلْهُدَىٰ } الإرشاد والبيان، كما تقدّم؛ أي بياناً لهم وإرشاداً. والمراد القرآن بجملته من مُحْكَم ومُتشابه وناسخ ومنسوخ؛ ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام. «وبَيِّناتٍ» جمع بيّنة، من بان الشيء يبين إذا وضح. { وَٱلْفُرْقَانِ } ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل؛ وقد تقدّم.

الحادية عشرة: قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } قراءة العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الأمر وحَقُّها الكسر إذا أُفردت؛ فإذا وُصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما تُوصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله «فَلْيَصُمْهُ» «فَلْيَعْبُدُوا». والواو كقوله: « { وَلْيُوفُوا } »[الحج: 29]. وثُم كقوله: « { ثُمّ لْيَقْضُوا } »[الحج: 29]. و «شَهِد» بمعنى حَضَر، وفيه إضمار؛ أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغاً صحيحاً مقيماً فليصمه، وهو يقال عامّ فيخصّص بقوله: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } الآية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد ٱختلف العلماء في تأويل هذا؛ فقال عليّ ٱبن أبي طالب وابن عباس وسُوَيد بن غَفَلَة وعائشة ـ أربعة من الصحابة ـ وأبو مِجْلَز لاحق بن حُميد وعَبيدة السَّلْمانِيّ: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيماً في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يُفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر. والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافراً أفطر وعليه عدّة من أيام أخر، ومن أدركه حاضراً فليصمه. وقال جمهور الأمة: من شهد أوّل الشهر وآخره فليصم ما دام مقيماً، فإن سافر أفطر؛ وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة. وقد ترجم البخاريرحمه الله ردًّا على القول الأول «باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر» حدّثنا عبد اللَّه بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ٱبن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد الله بن عتبة عن ٱبن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكَدِيد أفطر فأفطر الناس. قال أبو عبد اللَّه: والكَدِيد ما بين عُسفان وقُديد.

قلت: قد يحتمل أن يحمل قول عليّ رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الإخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقّق ذلك، أو دفع عدّو، فالمرء فيه مخيّر ولا يجب عليه الإمساك؛ بل الفطر فيه أفضل للتقوّى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه؛ لحديث ٱبن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جُنّ أوّل الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونَصْب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ «شهد».

الثانية عشرة: قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر؛ فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان بعد الفجر ٱستحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد ٱختلف العلماء في الكافر يُسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الإمام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى؛ لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحبّ إليّ أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبد الملك بن الماجشون: يكّف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحٰق مثله. وقال ٱبن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام ـ وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه ـ أوجب عليه الإمساك في بقية يومه. ورواه في المدوّنة ٱبن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الإمساك في بقية يومه؛ وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون، وقاله ٱبن القاسِم.

قلت: وهو الصحيح لقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فخاطب المؤمنين دون غيرهم؛ وهذا واضح، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى. وتقدّم الكلام في معنى قوله: { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والحمد لله.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } قراءة جماعةٍ «الْيُسُرَ» بضم السين لغتان، وكذلك «الْعُسُر». قال مجاهد والضحاك: «اليسر» الفطر في السفر، و «العسر» الصوم في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين؛ كما قال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "دين الله يُسر" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا" . واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسُمِّيت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى؛ قولان. وقوله: { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } وهو بمعنى قوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } فكرر تأكيداً.

الرابعة عشرة: دلّت الآية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة؛ كما أنه عالم بعلم، قادرٌ بقدرة، حيٌّ بحياة، سميعٌ بسمع، بصيرٌ ببصر؛ متكلمٌ بكلام. وهذه كلها معانٍ وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشِّيعة إلى نَفْيِها؛ تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يَصْدُق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصاً بالنسبة إلى من له إرادة؛ فإنّ من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصّصه؛ فالعقل السليم يقضي بأن ذلك كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قُدّر بالوهم سلب ذلك الأمر عنه لقد كان حاله أوّلاً أكمل بالنسبة إلى حاله ثانياً، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتّصف أنقص مما هو متّصف به، ولا يخفى ما فيه من المحال؛ فإنه كيف يتصوّر أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي بردّه وإبطاله. وقد وصف نفسه جلّ جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [البروج: 16] وقال سبحانه: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } وقال: { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [النساء: 28]، إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون. ثم إن هذا العالَم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والإحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصّصه بالوجود يجب أن يكون مريداً له قادراً عليه عالماً به؛ فإن لم يكن عالماً قادراً لا يصح منه صدور شيء؛ ومن لم يكن عالماً وإن كان قادراً لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن مريداً لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأوْلى من العكس؛ إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادراً مريداً وجب أن يكون حيًّا؛ إذ الحياة شرط هذه الصفات؛ ويلزم من كونه حيًّا أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً؛ فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متّصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد؛ والبارىء سبحانه وتعالى يتقدّس عن أن يتّصف بما يوجب في ذاته نقصاً.

الخامسة عشرة: قوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } فيه تأويلان: أحدهما: إكمال عدّة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني: عدّة الهلال سواء كانت تسعاً وعشرين أو ثلاثين. قال جابر بن عبد اللَّه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين" . وفي هذا رَدّ لتأويل من تأوّل قوله صلى الله عليه وسلم: "شهرَا عِيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة" أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوماً، أخرجه أبو داود. وتأوّله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين.

السادسة عشرة: ولا ٱعتبار برؤية هلال شوّال يوم الثلاثين من رمضان نهاراً بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد ٱختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدَّارَقُطْنِي عن شقيّق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: إن الأهِلّة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تُفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس. وذكره أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كتب إلينا عمر...؛ فذكره. قال أبو عمر: ورُوي عن عليّ بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضاً، وهو قول ٱبن مسعود وٱبن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد ٱبن الحسن واللّيث والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحٰق. وقال سفيان الثّوريّ وأبو يوسف: إن رُؤي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رُؤي قبل الزوال فهو للّيلة الماضية. وروُي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شِباكٍ عن إبراهيم قال: كتب عمر إلى عتبة بن فَرْقَد «إذا رأيتم الهلال نهاراً قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تُفطروا حتى تمسوا»؛ ورُوي عن عليّ مثله. ولا يصحّ في هذه المسألة شيء من جهة الإسناد عن عليّ. ورُوي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوريّ، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب، وبه كان يُفتي بقُرْطبة. وٱختلف عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة؛ قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعيّ وأبو حنيفة متّصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثّوري متقطع، والمصير إلى المتّصل أَوْلَى. وقد ٱحتج من ذهب مذهب الثوريّ بأن قال: حديث الأعمش مُجمَل لم يخصّ فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسّر، فهو أوْلى أن يقال به.

قلت: قد روي مرفوعاً معنى ما روي عن عمر متصلاً موقوفاً روته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً صُبح ثلاثين يوماً، فرأى هلال شوّال نهاراً فلم يُفطر حتى أمسى. أخرجه الدّراَقُطْني من حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدّثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال: سألت الزهريّ عن هلال شوّال إذا رؤي باكراً؛ قال سمعت سعيد بن المسيّب يقول: إن رؤي هلال شوّال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجيء؛ قال أبو عبد اللَّه: وهذا مجمع عليه.

السابعة عشرة: روى الدَّارَقُطْنِيّ عن رِبْعِيّ بن حِراش عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ٱختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيّان فشهدا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بالله لأهَلا الهلالَ أمس عَشيّة؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (الناس) أن يُفطروا وأن يغدوا إلى مُصلاّهم. قال الدَّارَقُطْنِي: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تُصلّى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال؛ وحكي عن أبي حنيفة. وٱختلف قول الشافعي في هذه المسألة؛ فمرّة قال بقول مالك، وٱختاره المزِنيّ وقال: إذا لم يجز أن تُصلّى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحْرَى ألا تُصلِّي فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصّلى في اليوم الثاني ضُحًى. وقال البُوَيطي: لا تصلّي إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قُضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تُقضى؛ فهذه مثلها. وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقاله أبو يوسف في الإملاء. وقال الحسن بن صالح بن حَيّ: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى. قال أبو يوسف: وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصلّ فيه لم تُقْضَ في غيره؛ لأنها ليست بفريضة فتُقْضَى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والأضحى من الغد.

قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح؛ للسنّة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لم يُصَلّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس" . صحّحه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحٰق وٱبن المبارك. وروي عن عمر أنه فعله.

قلت: وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصلّيهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصلّيهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصلّيهما فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذِكْر القضاء تجوّز.

قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل، لاسيّما مع كونها مرّة واحدة في السَّنَة مع ما ثبت من السُّنَّة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن عليّ قال حدّثنا يحيى قال حدّثنا شعبة قال حدّثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوماً رأوُا الهلال فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يُفطروا بعدما ٱرتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاّهم من الغد.

الثامنة عشرة: قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو ـ في بعض ما روي عنه ـ والحسن وقتادة والأعرج { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وٱختار الكسائي التخفيف؛ كقوله عز وجل: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]. قال النحاس: وهما لغتان بمعنىً واحد؛ كما قال عز وجل: { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [الطارق: 17]. ولا يجوز «ولتكملوا» بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدّم أن التقدير: ويريد لأن تكملوا، ولا يجوز حذف أن والكسرة؛ هذا قول البصريين، ونحوه قول كُثَيِّر أبو صخر:

أريد لأنسى ذكرها

أي لأن أنسى، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول؛ كالتي في قولك: ضربت لزيد؛ المعنى ويريد إكمال العدّة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعدُ، تقديره: ولأن تكملوا العدّة رخّص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفرّاء. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ ومثله: { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مُقْحَمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحٰق إبراهيم بن السّرِي: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل الله ذلك ليسهّل عليكم ولتكملوا العدّة، قال: ومثله ما أنشده سيبويه:

بادتْ وغيّر آيهنّ مع البِلَىإلا رواكِدَ جَمْرُهنّ هباء
ومُشَجَّجٌ أمّا سواءُ قَذالهفَبَدَا وغيّب سارَه المَعْزَاءُ

شَاده يَشيده شَيْداً جَصّصه؛ لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج أو ثَمَّ مشجّج.

التاسعة عشرة: قوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ })

عطف عليه، ومعناه الحضّ على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. وٱختلف الناس في حدّه؛ فقال الشافعي: رُوي عن سعيد ابن المسيّب وعُرْوة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبّرون ليلة الفطر ويحمّدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ٱبن عباس: حَقٌّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوّال أن يكبّروا. ورُوي عنه: يكبّر المرء من رؤية الهلال إلى ٱنقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبّر بتكبيره. وقال قوم: يكبّر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبّرون إذا خرجوا إلى المُصَلّى فإذا ٱنقضت الصلاة ٱنقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام. وروى ٱبن القاسم وعليّ بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبّر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فلْيُكبِّر في طريقه إلى المُصلَّى وإذا جلس حتى يخرج الإمام. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يُكبِّر في الأضحى ولا يُكبّر في الفطر؛ والدليل عليه قوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ } ولأن هذا يوم عيد لا يتكرّر في العام فسُنّ التّكبير في الخروج إليه كالأضحى. وروى الدَّارَقُطْنِي عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشدّ منهم في الأضحى. ورُوِيَ عن ٱبن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبّر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المُصلَّى. وروي عن ٱبن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يَجهر بالتكبير حتى يأتي المصلَّى ثم يكبّر حتى يأتي الإمام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ٱبن المنذر قال: وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس. وكان الشافعيّ يقول إذا رأى هلال شوّال: أحببت أن يكبّر الناس جماعةً وفرادى، ولا يزالون يكبّرون ويُظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلّى وحين يخرج الإمام إلى الصلاة، وكذلك أحبّ ليلة الأضحى لمن لم يحج. وسيأتي حكم صلاة العيدَيْن والتكبير فيهما في { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } و «الكوثر» إن شاء الله تعالى.

الموفِّية عشرين: ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثاً؛ وروي عن جابر بن عبد اللَّه. ومن العلماء من يكبّر ويُهَلِّل ويُسَبّح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلا. وكان ٱبن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر، لا إلٰه إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. قال ٱبن المنذر: وكان مالك لا يَحُدّ فيه حدّا. وقال أحمد: هو واسع. قال ٱبن العربي: «وٱختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل».

الحادية والعشرون: قوله تعالى: { عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } قيل: لما ضلّ فيه النصارى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب. وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع؛ فهو عام. وتقدّم معنى { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.